إصلاح ذات البين من القيم الإسلامية العظيمة التي دعا إليها الإسلام وحث عليها لما لها من أثر كبير في تحقيق السلم الأهلي والتسامح والعفو والتماسك الاجتماعي، ونشر الألفة والمحبة بين الناس ودرء الفتن وحقن الدماء، تصديقاً لقوله تعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ"، وهذا يدل على أهمية السعي في المصالحة بين الناس، والمصالحة بين الناس صفة حميدة لما لها من فوائد كثيرة في إزالة العداوة بين الأفراد وإعادة العلاقات الطيبة، وكذلك التخفيف عن المحاكم والأجهزة الأمنية ومنع النزاعات من التصعيد إلى مستويات التقاضي أمام المحاكم. من جانب آخر، الصلح بين الناس يحقق البركة في المجتمع، فالمُصلح له أجر عظيم عند الله، كما جاء في الحديث: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة".

الشيخ محمد بن علي أبوساق، شيخ شمل قبائل آل فاطمة في يام بجنوب المملكة العربية السعودية، من الناشطين في مساعي إصلاح ذات البين والحريصين على لمّ الشمل ونبذ الفرقة، ويسعى دائماً لحل النزاعات وتعزيز الوحدة بين أفراد المجتمع وإنهاء المشكلات قبل أن تستفحل، منطلقاً من رؤيته "أن القضايا الصغيرة إن لم تجد لها حلاً ستكبر"، مشدداً على أهمية المبادرة لحل المشكلات قبل أن تتشعب وتكبر فيصعب حلها أو يُصبح مُكلفاً للطرفين، إما مادياً أو جزائياً.

إقرأ أيضاً: مستقبل التواجد الروسي في سوريا

الشيخ محمد أبوساق من أشهر الشخصيات التي ذاع صيتها في هذا المجال، وقد اكتسب هذه المكانة بين أفراد قبيلته وبين باقي القبائل في المناطق الجنوبية، فأصبح مرجعاً وملاذاً لحل وتسوية العديد من القضايا المجتمعية بين الناس. يأتونه من مختلف المناطق والقبائل ليقينهم بحكمته وحنكته وفطنته وحياديته وحرصه على إصلاح ذات البين وإنهاء الخلاف، حتى وإن كان ذلك يزيد من الأعباء الملقاة على عاتقه ويضعه في مواجهة الخصوم من أجل إنهاء الخلاف وإيجاد حل وسط يُرضي جميع الأطراف. الشيخ أبوساق، قبل أن يكون شيخ قبيلته، هو رجل سمح، متواضع، دمث الأخلاق، طيب المعشر، بشوش الوجه، كريم الأصل والمنبت، بيته قبل مكتبه مفتوح للجميع في كل وقت وحين. هكذا سمعنا عنه فأحببناه، وأحببنا فيه شهامته وصفاته الأصيلة وأفعاله الطيبة وحكمته التي تحتاج إليها كل المجتمعات العربية، خصوصاً في وقتنا الراهن الذي كثرت فيه النزاعات وقلّ فيه الإيثار وتنامت فيه النزعة العدائية والعداوات بين أفراد المجتمع، إضافة إلى حب الأنا وتعظيم المصالح الشخصية على حساب الآخرين وإقصاء الآخر. وكم نحتاج إلى أمثاله في كل مجتمع عربي.

إقرأ أيضاً: هل ما زالت أميركا حليفًا مناسبًا للعرب؟!

يقول أحدهم: ذهبت إلى فناء المطاعم لتناول وجبتي مع أفراد أسرتي، وبينما كنت أبحث عن طاولة، كان المكان مزدحماً، فوجدت طاولة تجلس عليها امرأة وطفلة، وقد ضمت إليها أكثر من سبعة كراسٍ، وضعت على كل كرسي غرضاً من أغراضها حتى لا يأخذه أشخاص آخرون ممن هم بحاجة إلى كرسي ليجلسوا عليه. بعد فترة، أكملت هذه المرأة عشائها بعد أن انضم إليها رجل وطفل. هنا صمتتُ قليلاً لأتمعّن في فعل هذه المرأة التي استحوذت على أكثر من حاجتها، وهي ترى الناس من حولها لم يجدوا ما يجلسون عليه، منهم الأطفال وكبار السن والحوامل. هذا الفعل يُسمى أنانية وحب الاستحواذ، حتى وإن كان على حساب الآخرين. هذه الممارسات تؤثر سلباً على العلاقات الاجتماعية بين الناس، وحتى داخل الأسرة وفي مواقع العمل، فالأنانية تعني تقديم مصلحة الشخص على الآخرين دون اعتبار لاحتياجاتهم أو مشاعرهم، أما حب الاستحواذ، فهو الرغبة في امتلاك الأشياء أو الأشخاص والسيطرة عليهم بشكل غير مبرر. وقِسْ على ذلك ممارسات مشابهة في مختلف الأمور؛ فالبعض يستأثر النجاح لنفسه ويسعى إلى أن يحرم غيره من هذا الحق، والبعض يستأثر بالمنصب لنفسه ولأفراد أسرته ويسعى إلى تحجيم أي شخص ينافسه في ذلك، والبعض يرى أنه أولى من غيره في تلك الوظيفة أو في ذلك السحب الذي أقامه البنك، وأن الشخص الفائز لا يستحق الفوز، والبعض يرى أن جميع مقدرات الوطن يجب أن تُمنح له أولاً دون غيره.

إقرأ أيضاً: أمم تتطلع للمستقبل وأخرى أسيرة الماضي

أسباب ذلك كله تعود إلى التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي تشجع الفرد على تعظيم مصالحه الشخصية وحب الذات بطريقة مبالغ فيها، وجعل المقارنات جزءاً يومياً من حياتهم، فأصبح الناس يسعون إلى الكمال المزيف، إضافة إلى غياب الإيثار ومحبة الخير وتشارك المنفعة مع الآخرين. آثار هذه الصفات السلبية تتمثل في تدمير العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع، وخلق مجتمع أناني غير متجانس، وبيئة سلبية مليئة بالتوتر والمنافسة غير الصحية. عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".