أحداث تونس... فشل شعار laquo;التنمية أولاًraquo;

منصور الجمري

الوسط

لعلّنا في منطقتنا الخليجية لا نسمع كثيراً عن laquo;الاتحاد من أجل المتوسطraquo;، ولعلّنا أيضاً لا نعير أهمية لفشل فرنسا (التي تتصدر الاتحاد الأوروبي في هذا الاتحاد مع الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط) لعقد laquo;قمة من أجل السلامraquo; في باريس في أكتوبر/ تشرين الأول 2010، إذ لم يستجب لها أحد. و laquo;الاتحاد من أجل المتوسطraquo; هو تشكيل جديد انطلق في 2008، وذلك بعد تطوير laquo;الشراكة الأوروبية المتوسطيةraquo;، والتي كان يطلق عليها laquo;عملية برشلونةraquo;، وكانت هذه الشراكة قد تأسست في مدينة برشلونة الإسبانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1995 وجمعت دول الاتحاد الأوروبي مع دول منطقة البحر الأبيض المتوسط، واستهدفت تطوير العلاقات من أجل تحقيق السلام والأمن والرخاء، وكان التأسيس قد تم برعاية وزراء خارجية الدول الأوروبية و14 شريكاً من دول البحر الأبيض المتوسط.

عملية برشلونة طورت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وعدد من الدول، وفي المقدمة تونس، على مبدأ يمكن وصفه بـ laquo;التنمية أولاًraquo;، بمعنى أن الاتحاد الأوروبي يساهم في تطوير عملية التنمية الاقتصادية وتوسيع الطبقة الوسطى من ناحية الكمية والنوعية، وأن هذا سيؤدي في النهاية إلى إحداث الإصلاح الاقتصادي المنشود، والذي بدوره سيدفع بعجلة الإصلاح السياسي لاحقاً. وكانت دول الاتحاد الأوروبي تخشى أن الانفتاح السياسي من دون تنمية اقتصادية ذات قاعدة عريضة من الطبقة الوسطى سيؤدي في النهاية إلى وصول الإسلاميين أو المتطرفين الذين ينتهجون أجندة تتناقض مع أجندة الاتحاد الأوروبي.

وهكذا، استفادت تونس كثيراً من إقامة شراكة اقتصادية ومالية laquo;لتحقيق الازدهار المشتركraquo; من خلال تجارة حرة وتعاون اقتصادي وتنمية الموارد البشرية وتطوير التقنيات الأساسية. وقد اقتنع الاتحاد الأوروبي بنجاح عملية برشلونة في عدة جوانب، إلى الدرجة التي قامت الدول الأوروبية المتصدية (على رأسها فرنسا) بإعادة صوغ laquo;عملية برشلونةraquo; لتصبح في 2008 تحت اسم laquo;الاتحاد من أجل المتوسطraquo;. وتبنّى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي فكرة إعادة إطلاق الشراكة، واعتبر أن الشراكة الموسعة ستفسح المجال للتجارة الحرة في المنطقة وستحافظ على البيئة (وخاصة تنظيف البحر الأبيض المتوسط)، وستطور وسائل النقل والدفاع المدني، وستطور مصادر الطاقة البديلة، وستوفر تدريباً على مستوى عال، وستطور المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وغيرها من الموضوعات التي نزعت منها محتويات laquo;الإصلاح السياسيraquo; و laquo;الدمقرطةraquo; التي كان الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش قد طرحها بعد غزوه للعراق.

ومباشرة بعد إعادة تأسيس عملية برشلونة في 2008 حدثت الأزمة المالية العالمية، وبدلاً من مساعدة الاتحاد الأوروبي لدول البحر الأبيض المتوسط (مثل تونس) أصبح لزاماً عليه إنقاذ اليونان وعدة دول أوروبية جنوبية من أزمة الديون السيادية، والسعي لإحداث الاستقرار النقدي في منطقة اليورو... وهكذا ازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءاً لتصل إلى تونس والجزائر (وربما دول أخرى على الطريق)، وأصبح واضحاً أن الطبقة الوسطى التي نمت من خلال إصلاحات تتوافق مع عملية برشلونة إنما خلقت نوعاً جديداً من البطالة (بطالة الجامعيين) وأن الإصلاح الاقتصادي من دون إصلاح سياسي إنما هو وهم، وأن شعار laquo;التنمية أولاًraquo; مع إهمال الجانب السياسي، يُعرّض الاقتصاد والسياسة إلى الخطر.

اقتلوهم وشرِّدوا بهم مَن خلفهم

ياسر الزعاترة

العرب

لم يكن محمد البوعزيزي يخطط لقتل نفسه حرقاً، لكنهم أغلقوا الأبواب في وجهه، إذ حتى عربة الخضار التي أراد العيش من ورائها كانت هدفاً للدولة التي تتشدق بأنها تحقق نمواً كبيراً ونجاحات اقتصادية باهرة، أما الذين جاءوا من بعده على طريق الموت، فقد فعلوا لأنه استوى عندهم مع الحياة، وبذلك انكسر عندهم حاجز الخوف، فكان الرصاص الحي في انتظارهم، فحصد منهم العشرات وجرح أكثر من ذلك.
يا الله، ماذا يتبقى من شرعية أي نظام سياسي حين يطلق الرصاص الحي على مواطنيه العزّل فيرديهم قتلى وجرحى من دون أن يرفّ له جفن، بينما يوجّه سهام نقده نحو فضائية الجزيرة بوصفها المحرض على الاحتجاج؟!
ألم يكن بوسع تلك القوات المدججة بكل تقنيات القوة والقمع أن تفرق جحافل الشبان من دون أن توقع بهم إصابات قاتلة؟ نعم بالتأكيد، كان بوسعها أن تفعل ذلك، لكنها أصيبت في كبريائها على ما يبدو، هي التي اعتقدت أنها صنعت طوال أكثر من عشرين عاماً مواطناً يدير خده الأيسر كلما صُفع على خده الأيمن.
ألم تأخذ تلك الأجهزة الكثير من شهادات حسن السلوك من لدن الدول الغربية تبعاً لنجاحها الباهر في الإجهاز على حركة النهضة الإسلامية التي عوقبت على فوزها بانتخابات عام 89 التي جرى تزويرها بزج الآلاف من أبنائها في السجون؟
والحق أنها كانت أجهزة متميزة، لم تتفوق فقط في ميدان القمع المباشر، بل تفوقت أيضاً في ميدان تشويه الناس، وبث الرعب والإحباط في نفوسهم، بما في ذلك الذين يخرجون من السجون، ومن قرأ كتاب laquo;المراقبة الإدارية في تونسraquo;، الذي صدر العام الماضي عن جمعية مناصرة المساجين السياسيين في تونس سيصاب من دون شك بالغثيان من الطرق التي تستخدمها السلطات الأمنية في ملاحقة المساجين المفرج عنهم، لكي تبث الإحباط في نفوسهم، وفي نفوس كل من يفكر في معارضة السلطة بأية وسيلة كانت.
يحدث ذلك رغم وجود أحزاب وانتخابات تعني في خاتمة المطاف ديمقراطية ليس فيها من الديمقراطية سوى العناوين الخارجية، بدليل أن الحزب الحاكم يفوز في سائر الجولات بنسبة %100 قبل أن يتدخل laquo;العقلاءraquo; ليخصصوا laquo;كوتاraquo; للمعارضة من أجل أن يقال إنها ديمقراطية حقيقية، مع أن المعارضين يجري اختيارهم أيضاً من اللون الذي يهلل للسيد الرئيس وكرمه على البلاد والعباد.
ما يلفت الانتباه في هذه الحكاية المأساوية هو وقوعها في بلد يقال إنه يحقق نمواً اقتصادياً كبيراً، الأمر الذي ينطبق على الجزائر التي تتمتع باحتياطي من العملات الصعبة يقدر بـ146 مليار دولار، وكذلك في مصر التي يقال إنها تحقق نمواً أيضاً، بينما يئن الناس فيها من سطوة الفقر، وبالطبع في ظل الحزب الوطني الحاكم الذي يحتكر السلطة، تماماً كما يحتكرها في تونس الحزب الدستوري، ولا تسأل عن الرئيسين المعمرين (تجاوز حكم التونسي 23 عاماً في الحكم، والمصري 30 عاماً).
أين تذهب التنمية إذن؟ الجواب بسيط. إنها تساهم في زيادة فقر الفقراء وغنى الأغنياء. إنها تنمية تصب في جيوب فئة معينة، لاسيَّما تلك القريبة من دوائر السلطة. ففي تونس تماماً مثلما هي الحال في مصر، تنمو طبقات فاحشة الثراء، تستخدم علاقتها بالسلطة في مراكمة أموال ضخمة، الأمر الذي يجعل أعداداً بسيطة من هذه الطبقة تملك ما لا يملكه الملايين من الفقراء ومحدودي الدخل، والخلاصة أننا إزاء معضلة زواج السلطة والثروة التي لا تساهم في إفقار الغالبية لحساب الأقلية فحسب، بل تؤدي أيضاً إلى مزيد من النزق في أوساط السلطة ضد النقد، وضد أي شكل من أشكال المعارضة مهما كانت سلمية وناعمة.
في وثائق ويكيليكس الأخيرة تابعنا إشارات لتونس، ولعلنا نتابع المزيد منها خلال الشهور القادمة، لكنها على بساطتها تعطي دلالة واضحة على حقيقة ما يجري في أروقة الحكم. تقول برقية مؤرخة في يونيو 2008 إن الرئيس التونسي محاط بما يشبه laquo;المافياraquo;، وإن النظام لا يقبل النقد ولا النصح، وتشير إحدى الوثائق إلى واقعة بسيطة تمثلت في حصول زوجة الرئيس على قطعة أرض كمنحة مجانية لبناء مدرسة خاصة ومن ثم بيعها بعد ذلك.
وفي حين لا تغادر المعلومات المشار إليها حدود المعروف، حيث يتوفر ما هو أهم منها بكثير في الأوساط السياسية والشعبية، فإن توثيقها هنا يبدو بالغ الأهمية، من دون أن يعني ذلك أن النظام سيتعرض لانتقادات من الخارج، إذ إن سيرة الغرب معه لم تغادر مربع الدعم، خاصة إثر ما يرونه نجاحاً باهراً له في مواجهة laquo;الأصوليينraquo;، فضلاً عن مجاملته للسياسة الأميركية في الملفات الحساسة عربياً، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
ما جرى في المدن التونسية والجزائرية وقبل ذلك في المدن اليمنية هو مجرد إشارة إلى ما يمكن أن يحدث (ولو بعد حين) في مدن عديدة في طول هذا العالم العربي وعرضه إذا تواصلت المأساة المتمثلة في زواج السلطة والثروة وما تعنيه من فساد وإفساد، إضافةً إلى غياب الحرية والتعددية الحقيقية، وعلى القوى الحية تبعاً لذلك أن تأخذ دورها في المعركة، فهذه الجماهير تبحث عمن يقودها نحو الحرية والتغيير الحقيقي، وليس الديمقراطية الشكلية.