محمد جابر الأنصاري

القوتان الأعظم في زمننا هما: الولايات المتحدة والصين (فهل تنشب ldquo;حرب باردةrdquo; بينهما؟) موضوعياً: نعم! ذاتياً: لا، فلا توجّه لأي قوة لمواجهة القوة الأخرى خارج نطاق الدبلوماسية السلمية رغم تنامي ldquo;تناقضاتrdquo; بينهما في المصالح تتصادم عادةً بشأنها الدول، وقد سمعنا مؤخراً شكوى أمريكية ضد الصين في إفريقيا على لسان مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية، عندما قال ثمة أساليب ldquo;غير أخلاقيةrdquo; لها في القارة السمراء، ولكن الاتصالات ldquo;الوديةrdquo; جارية بين الطرفين من زيارة رئيس الصين المتوقعة بعد أيام لواشنطن، إلى زيارة وزير الدفاع الأمريكي لبكين قبله لتحسين العلاقات العسكرية.

فقدت الولايات المتحدة ميزة ldquo;أحادية القوةrdquo; بعد ما سُميّ ldquo;بانهيارrdquo; الاتحاد السوفييتي. (وحقيقة الأمر أن روسيا الأوروبية البيضاء قررت الانسحاب من المواجهة المرهقة بالتخلص من ldquo;مستعمراتهاrdquo; في آسيا الوسطى وشرق أوروبا كغيرها من دول أوروبا الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا التي تخلصت من مستعمراتها وأعادت صياغة مستقبلها في ظل الوحدة الأوروبية، وذلك بالتخلص أيضاً من الايديولوجيا الشيوعية التي تبنتها روسيا مطلع القرن العشرين لتوفير الغطاء الايديولوجي السياسي والمبرر الأخلاقي للسيطرة على تلك المستعمرات، وربما اكتشفت موسكو بعد زمن أن انضمامها إلى أوروبا الموحدة هو البديل التاريخي الطبيعي).

بإيجاز، فقدت الولايات المتحدة ميزة ldquo;أحادية القوةrdquo; في العالم بصعود الصين وتلك المنظومة من القوى الكبرى كأوروبا وروسيا والهند والبرازيل -، فليس في المنطق الطبيعي أو الاجتماعي البشري، أو الإلهي الديني بقاء قوة واحدة في عالمنا فحتى الدودة الصغيرة، في الطبيعة، تنقسم إلى اثنتين، وفي الفكر البشري المعبر عن المجتمع والتاريخ تستند ldquo;الجدليةrdquo; سواء كانت هيغلية روحية أو ماركسية مادية إلى ضدين، أو كما عبر عربياً توفيق الحكيم. بمصطلح ldquo;التعادليةrdquo;. وفي تاريخ الأديان ثمة صراع بين الظلمة والنور كما في الزرادشتية الفارسية، وبين الله وإبليس، كما في الأديان السماوية، أو كما قال القرآن الكريم: ldquo;ولو شاء الله لجعلهم أمةً واحدةrdquo; (8 الشورى).

هذا وقد أسرت الصين مؤخراً إلى بعض أصدقائها العرب الذين شجعوها على ldquo;مواجهةrdquo; أمريكا (المنحازة لإسرائيل) بأنها لا تميل إلى هكذا مواجهة، كما اتضح أيضاً من تسريبات ldquo;ويكيليكسrdquo; أن الصين لا تمانع في توحيد الكوريتين في ظل كوريا الجنوبية إذا بادلتها واشنطن بعض المنافع الاقتصادية. فالقوة الصينية صارت تتصرف اليوم كقوة برغماتية أكثر منها ايديولوجية (وهنا مكمن خطورتها وأهميتها في العالم)، فلا يهم ldquo;لونrdquo; القطة إذا كانت تصيد الفئران، كما يقال في بكين هذه الأيام.

وإذا كانت الصين قد منعت إدانة كوريا الشمالية في مجلس الأمن، فإن ذلك مقابل ldquo;المرونةrdquo; التي أبدتها حيال جارتها الجنوبية، وrdquo;الانفراجrdquo; الملاحظ في تلك المنطقة.

ثمة إجماع عالمي على أن الصين قوة صاعدة ldquo;بنعومةrdquo; وتمسكها بهذا الأسلوب ldquo;الناعمrdquo; مرده لاعتبارات ومعطيات في المحيط الإقليمي في شرق آسيا وفي الوضع الدولي، خاصة بمواجهة التواجد الأمريكي في الشرق الآسيوي. غير أن بعض الدراسات الغربية عن الصين لا تتوقع استمرار هذه ldquo;النعومةrdquo; الصينية، وترى أن ثمة وجهاً آخر لها سيظهر في الوقت الذي تراه ldquo;مناسباًrdquo;. كما أن كبار الاستراتيجيين الأمريكيين، كبريجنسكي، يفكرون اليوم في كيفية ldquo;احتوائهاrdquo;.

قبل زمن غير بعيد أرادت الإدارة الأمريكية إرسال وزير دفاعها، روبرت غيتس، إلى بكين لمحادثات مع قادة جيش ldquo;التحريرrdquo; الصيني. لكن رد بكين لم يكن بrdquo;النعومةrdquo; الكافية. فقد قيل لواشنطن إن الوقت ldquo;غير مناسبrdquo; لمجيء وزير الدفاع الأمريكي، وإن عليه أن يطرق الباب ثانيةً بعد شهر أو اثنين عندما يشعر قادة الجيش الصيني أنهم مستعدون للقائه، والآن فقط جاءت زيارته المرتقبة.

وفي الآونة الأخيرة، أخذت تتواتر الأنباء عن ازدياد القلق الأمريكي والغربي عن التطور العسكري في الصين، كما نسب إلى وزير الدفاع الصيني نفسه قوله إن بلاده تستعد للحرب في كل الاتجاهات. وقبل زمن غير قصير، أيضاً، نشرت دورية ldquo;الشؤون الخارجيةrdquo; (Foreign Affairs) الصادرة عن مجلس العلاقات الخارجية، والتي يعتقد أنها تعكس آراء الخارجية الأمريكية، رغم تأكيدها حسب تقاليد النشر، إن ما تنشره يمثل رأي صاحبه وقد يتناقض مع رأي كاتب آخر فيها، وهي غير ldquo;ملتزمةrdquo; به.

ففي أحد أعدادها الأخيرة أبرزت المقالة الرئيسة على الغلاف عن الصين مع تساؤل كاتبه ldquo;أين ستقف الصين براً وبحراً وهي ترسم خارطتها الكبرىrdquo;.

هل هو تعبير عن ldquo;قلقrdquo; أمريكي بشأن توسع الصين أم هو مجرد دراسة ldquo;موضوعيةrdquo;؟

المقالة من منطلقها ldquo;الموضوعيrdquo; تعكس في النهاية قلقاً أمريكياً لا يمكن إغفاله. وكاتبها يرى أن الصين لم تعد تنطلق في مواقفها وسياساتها منطلقاً أيديولوجياً وإنما ldquo;براغماتياًrdquo; وذلك لإرواء تعطشها وتعطش صناعاتها المتنامية، التي تستند إليها قوتها الاقتصادية إلى المعادن والمواد الخام ومصادر الطاقة. وربما أدى بها هذا ldquo;التعطشrdquo; إلى مد يدها على بلدان محيطة بها تمتلك تلك المواد الخام.

وهكذا نعود إلى ldquo;القصة الأزليةrdquo; التي تتلخص في استخدام القوة العسكرية في سبيل المصالح الاقتصادية كما حدث في أوروبا بين رأسمالياتها المتطاحنة من أجل ldquo;الأسواقrdquo; وrdquo;المواد الخامrdquo;.

إن وجود الصين جغرافياً في بلدان آسيا الوسطى القريبة منها والتي انحسر عنها النفوذ الروسي السوفييتي وانفتحت اليوم أمام الآخرين يدخل في هذا الباب، كما أن ldquo;الدراسةrdquo; لا تستبعد توغلاً صينياً يعتمد على كثافتها السكانية وثقلها في بلد يقع إلى شمالها تحت النفوذ الروسي هو ldquo;منغولياrdquo; الغني بمواده الخام والفقير بأعداد سكانه الذين لا يتجاوزون الملايين القليلة، ويمكن تفسير ldquo;التقاربrdquo; الأمريكي الروسي ومحاولة التقليل من ldquo;اكتشافrdquo; شبكة الجاسوسية الروسية في الولايات المتحدة بأنه لمواجهة الطموحات الصينية، حسب زعم الدورية الأمريكية. كما أن حرص الإدارة الأمريكية على إنفاذ اتفاقية ldquo;ستارتrdquo; مع روسيا يصب في هذا الاتجاه.

إن الهند الدولة المجاورة الوحيدة التي لم تحل الصين معها بعد، خلافاتها الحدودية يجري تشجيعها على الاستقواء في وجهها بدعم أمريكي وتحالف ياباني بالدرجة الأولى وبدعم روسي بالدرجة الثانية، ثم بمشاركة ldquo;هادئةrdquo; من جانب الدول الأخرى المحاذية لبحر الصين الجنوبي (البحر الأصفر). وقد زار الرئيس الأمريكي الهند مؤخراً. وأظهر لها من مؤشرات الدعم ما أدى إلى تقوية المحور الصيني الباكستاني الذي لا يخلو من دعم ldquo;نوويrdquo; من الصين إلى باكستان التي تحيط بها من الظروف الموضوعية ما يبعدها عن السياسة الأمريكية. وقد نجم عن ذلك بناء الصين لقاعدة عسكرية في ldquo;جوادرrdquo; التي لا تبعد كثيراً عن الخليج العربي. ولأن الصين لا تريد تصعيداً ومواجهة استقطابية في آسيا، فقد قامت بالرد، دبلوماسياً وسلمياً حيال الهند، وقام رئيس وزرائها بزيارة ودية إلى نيودلهي قد تسفر عن نتائج اقتصادية مهمة ورد الرئيس الروسي بدعم اقتصادي وعسكري أيضاً.

غير أن ldquo;التوسعrdquo; في البحر ليس بتلك السهولة، أمام الصين، بما في ذلك مد اليد إلى جزيرة تايوان عبر المضيق بينهما، وإن كان ldquo;البنتاغونrdquo; يتوقع في أحدث تقاريره عن العسكرية الصينية التي يرى أنها تتنامى خفية أن تكون ldquo;معركة تايوانrdquo; هي أولى معارك الصين العسكرية المتوقعة حيث لن يخوض ldquo;الوطن الأمrdquo; معركة عسكرية قبل ذلك. ثم إن القوة اليابانية تقف بالمرصاد للتوسع البحري الصيني، وذلك ما تمخضت عنه المواجهة بين القوتين هناك.

ويبقى أن الصين، وإن كانت تدافع عما تعتبره منطقة نفوذها ومجالها ldquo;الاقتصادي الحيويrdquo;، فإنها ليست بصدد الاصطدام مع القوى الغربية، وهي تتبع حتى هذه اللحظة دبلوماسية متوازنة للتوفيق بين طموحاتها ومستلزمات السلوك الدولي المقبول. وهي مقتنعة حالياً بهذا النفوذ الاقتصادي وتاركة لواشنطن مسألة الهيمنة العسكرية في المنطقة، وهي شبه محايدة في النزاع بين الكوريتين، وإن كانت كلامياً أميل إلى كوريا الشمالية.

ثم إن الصين، باندفاعتها الاقتصادية والصناعية، توشك أن تقدم نموذجاً فكرياً جديداً للعالم وهو أنه يمكن تحقيق تنمية جادة، دون التزام بالديمقراطية الكلاسيكية.

هذا مع عدم إغفال أي عواقب للفجوة المتنامية بين من ldquo;يملكونrdquo; ومن ldquo;لا يملكونrdquo; في العمق البشري الصيني، وتأثير ذلك في مستقبلها على المدى البعيد.

ويبقى أن الصين، بتجربتها الحديثة، مازالت تقدم سابقة مشجعة في تاريخ الأمم الشرقية، وخاصةً للعرب الذين يعيشون في تجزئة وخلافات وتراجع.

إن دراسة تجربة النهضة الصينية مسألة مفيدة، وعلى كل عربي أن يتأملها، ليس هي وحدها، وإنما تجربة النهضة اليابانية، وكذلك تجربة النهضة الهندية، واستخلاص الدروس منها كلها.