خيرالله خيرالله
لا يمكن الاستخفاف بأي شكل بالنتائج التي ستترتب على انفصال جنوب السودان، خصوصا بعدما تبين ان الادارة الاميركية تعتبر قيام دولة جديدة في افريقيا، وفي منطقة معيّنة من القارة السمراء، هدفا بحد ذاته. يتبين، في ضوء الجهود التي بذلتها الادارة من اجل اجراء الاستفتاء في موعده ان ما حصل في السودان جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الاميركية على الصعيد الافريقي. صحيح ان لا وجود لمشروع اميركي واضح في الشرق الاوسط باستثناء الكلام العام الذي رددته ادارة بوش الابن عن quot;نشر الديموقراطيةquot; في الشرق الاوسط الكبير، الممتد من باكستان إلى موريتانيا، لكن الصحيح ايضا ان هناك بحثا اميركيا عن موطئ قدم في السودان، في جنوبه تحديدا. هذا البحث اثمر اخيرا. ستكون هناك في المستقبل القريب دولة افريقية اخرى اسمها quot;السودان الجديدquot;،او ما يشبه ذلك، ولدت برعاية اميركية. ستكون هذه الدولة اكثر قربا من اوغندا موسيفيني مقارنة مع ما بقي من السودان.
لماذا هذا الاصرار الاميركي على إقامة دولة في الجنوب السوداني؟ الجواب الذي يمكن ان يكون قريبا من الواقع هو ان القوة العظمى الوحيدة في العالم اكتشفت، متأخرة، ان الصين استطاعت ان تسبقها إلى افريقيا وان ذلك لم يكن ممكنا لولا تغلغلها المبكر في القارة السمراء عبر السودان عن طريق نظام الرئيس عمر حسن البشير. استفادت الصين دائما من حاجة هذا النظام إلى حماية دولية، خصوصا إلى الفيتو الصيني في مجلس الامن، فاستغلت الوضع إلى ابعد حدود وهو ما تنبهت له الولايات المتحدة التي سعت إلى ضمان حصة لها في السودان بصفة كونه احدى البوابات الافريقية.
اكتفت الادارة الاميركية السابقة بالكلام العام عن نشر الديموقراطية في الشرق الاوسط، خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من ايلول 2001. غرقت الولايات المتحدة في الرمال المتحركة العراقية. لم تتنبه إلى ان ايران لعبت دورا اساسيا في الاتيان بها إلى العراق كي تخوض حربا انتهت بتقديم العراق على صحن من فضة إلى النظام الايراني الطامح إلى الهيمنة على المنطقة...
بعد اشهر قليلة من الاجتياح الاميركي للعراق، لم تعد للولايات المتحدة سوى استراتيجية واحدة في الشرق الاوسط تختزل بكيفية الخروج من العراق باقلّ مقدار ممكن من الخسائر والتركيز على افغانستان وعلى باكستان. اكتشف الاميركيون فجأة ان باكستان ليست سوى الحديقة الخلفية لـquot;طالبانquot; وانها لا ترى في quot;القاعدةquot; مصدرا من مصادر الارهاب في العالم، بل تعتبر الهند، وهي اكبر ديموقراطية في العالم، العدو الاول والاخير!
مع وصول باراك اوباما إلى البيت الابيض، زاد التركيز الاميركي على كيفية الخروج من العراق باي ثمن كان من جهة وعلى اهمية التركيز على افغانستان وباكستان من جهة اخرى. فبعد تعزيز القوات الاميركية في افغانستان قبل نحو سنة، صارت هناك حرب يمكن تسميتها بـquot;حرب اوباماquot;.
في غضون ذلك، اي فيما كانت اميركا غارقة في العراق وافغانستان إلى ما فوق اذنيها، كانت الصين تعزز مواقعها في افريقيا في مناطق ليست بعيدة جدا عن مسقط راس أجداد الرئيس الاميركي الاسود، اي في كينيا. كان لا بدّ من الرد في القارة الوحيدة التي لم تستغل الدول الكبرى والشركات الاميركية العملاقة ثرواتها كما يجب. لم يكن ممكنا ان تترك الولايات المتحدة افريقيا للصين. ثمة في واشنطن من يعتقد ان فوز اوباما في الانتخابات الرئاسية ليس بعيدا عن الاهتمام الاميركي بافريقيا وثرواتها.
بات السودان مهيئاً ليكون احدى البوابات الاميركية إلى افريقيا. هناك من دون شك بوابات اخرى في متناول الولايات المتحدة، بينها البوابة الجزائرية على سبيل المثال، لكن جنوب السودان بفضل موقعه الجغرافي والثروات التي في ارضه، اضافة إلى ان قسما من مياه النيل يمر في اراضيه، تحوّل هدفا اميركيا في هذه الايام بالذات. يبدو ان هناك حاجة اميركية إلى تأكيد ان الولايات المتحدة لا تزال القوة العظمى الوحيدة في العالم وان العبء الثقيل الذي خلّفه جورج بوش الابن لا يعني انها تخلت عن افريقيا وانها ستمضي وقتها في البحث عن مخرج من افغانستان بعدما استسلمت امام ايران في العراق. الرسالة الاميركية تبدو واضحة. فحواها ان غياب الاستراتيجية والمشروع الواضح في الشرق الاوسط لا يعني ان لا وجود لرؤية في افريقيا ولمستقبلها في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة.
ايا تكن الضمانات التي ستقدمها الادارة الاميركية إلى الرئيس السوداني وأركان نظامه، ليس ما يؤكد ان انفصال الجنوب هو نهاية المطاف. كان الانفصال جولة في الحرب الاقتصادية الدائرة بين الصين والولايات المتحدة. ستكون هناك جولات اخرى في المستقبل القريب. ما يفترض ان لا يغيب عن البال ان اميركا هي التي اخرجت الاوروبيين من افريقيا. لم يعد الوجود الفرنسي في القارة السمراء سوى وجود موظف في خدمة الولايات المتحدة في معظم المناطق الافريقية. الاكيد ان لفرنسا مصالح في هذا البلد او ذاك. ولكن ما لا يمكن تجاهله في اي لحظة ان هذا الوجود مرتبط إلى حد كبير بالاستراتيجية الاميركية التي لن تقبل بحلول الصين مكان اوروبا في افريقيا لااكثر ولا اقلّ.
في العام 1956، بعد انتهاء حرب السويس، فهمت اوروبا ممثلة ببريطانيا العظمى وفرنسا الرسالة الاميركية. الاكيد ان باراك اوباما ليس دوايت ايزنهاور. لكن المؤسسة الاميركية لا يمكن الا ان تبعث برسالة إلى الصين مضمونها ان الحرب الباردة انتهت وان القوة العظمى الوحيدة لم تفقد كل انيابها بعد، خصوصا في افريقيا!
التعليقات