رغيد الصلح

احتل الرئيس التونسي السابق زين الدين بن علي مركز الصدارة في مناخات القمم العربية مرتين . المرة الأولى احتل فيها هذا المركز على أبواب القمة العربية السادسة عشرة التي انعقدت في تونس . وكان سبب الاهتمام الموقف المفاجئ الذي اتخذه تجاه القمة . أما المرة الثانية التي يتحول فيها بن علي إلى محور اهتمام القمة العربية فهي خلال قمة شرم الشيخ الحالية، أما الأسباب فهي بديهية لدى كل من يتابع السياسة العربية وما يطبعها من تداخل وتقاطع .

الاهتمام ببن علي كان على أشده في المؤتمرين، ولكن الفارق بين الأمس واليوم هو ليس بين الموقع الذي كان يحتله على رأس النظام في بلاده، وبين موقعه السياسي اليوم بعد أن أطيح به . الفارق الأهم في تقديري هو في نمط العلاقة الذي كان قائماً خلال المناسبتين بين الرئيس التونسي السابق والفريق الحاكم الذي مثله، من جهة، ودول الغرب والدول العربية من جهة أخرى .

فخلال عام ،2004 كان بن علي يتمتع بدعم كبير في دول الغرب بعد أن طبق المبادئ التي دعيت ldquo;اجماع واشنطنrdquo;، والتي تضمنت ضبط العجز المالي، تحرير التجارة الخارجية التونسية من القيود الحمائية، فتح الأبواب أمام الاستثمارات الأجنبية وتنمية الصادرات إلى الأسواق الخارجية .

قوبلت هذه الاجراءات بخطوات تشجيعية من قبل القوى الأطلسية ومن الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا بصورة خاصة . وتتالت من بعدها الشهادات والاشادات الغربية بالنظام التونسي، بحيث ساهمت في تكريس صورته البراقة وتحويله إلى النموذج التنموي العربي، خاصة أن الاقتصاد التونسي هو الأكبر في إفريقيا والخامس في المنطقة العربية، وبعد أن تبوأت تونس عام 2008 المرتبة السادسة والثلاثين بين دول العالم، متقدمة بذلك على إيطاليا والبرتغال من حيث تنافسية اقتصادها، كما جاء في التقرير السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي .

وحصل نظام بن علي على جائزته الكبرى حينما وقعت تونس اتفاق إطار التجارة والاستثمار مع الولايات المتحدة عام ،2002 ثم اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الذي طبق عام ،2008 وكانت للاتفاق الأول أهمية سياسية، ورمزية أما الاتفاق الثاني فقد جعل الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لتونس، إذ بلغت صادراته إلى أربع دول فقط من دول الاتحاد ما يقارب 64% من مجمل صادراته إلى الأسواق الخارجية . إلى جانب ذلك تحولت دول الاتحاد إلى مقصد رئيسي للهجرة التونسية، ومن ثم المصدر الأكبر لعائدات المهاجرين التونسيين في الخارج .

مع هذه المعطيات، وضع نظام بن علي البيض التونسي كله في سلة الاتحاد الأوروبي . بالمقابل، هل أبقى بن علي بعض البيض التونسي لكي يضعه في السلة العربية؟ أو كما يتساءل البعض من المتعاطفين مع الالتحاق بأوروبا ومع ldquo;اجماع واشنطنrdquo;: هل هناك من سلة عربية كي يوضع البيض فيها؟ يأتينا الجواب عن السؤال الأول من تقرير اعده بنك التنمية الإفريقي حول الاستراتيجية الاقتصادية لتونس بين عامي 2007 ،2011 إذ يقول إن حجم تجارة تونس مع الدول العربية الأخرى لم يتجاوز 5%، وهو حجم ضئيل للغاية بالمقارنة، كما يقول التقرير مع تجارة تونس الخارجية ومع حجم التجارة الإقليمية المطلوب والممكن . كذلك يعتبر التقرير، فيما نعتبره جواباً على السؤال الثاني أن هذا الاندماج الاقليمي المحدود ليس كافياً من أجل اجتذاب تونس الاستثمارات الكافية للنهوض بالاقتصاد التونسي، ولتوفير حلول للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها .

إن تونس ليست مسؤولة عن ضعف التجارة الإقليمية البينية العربية . هذا الواقع هو حصيلة ترد عربي عام، وهو حصيلة طغيان النزعات المناهضة للتعاون والتنسيق الحقيقي والجاد بين الدول العربية على الدعوات لتنمية العلاقات البينية العربية عبر إقامة السوق العربية المشتركة وكونفدرالية عربية تمكن العرب من الحفاظ على حقوقهم والاهتمام بمصالحهم . هذه ldquo;السلة العربيةrdquo; لا تأتي من الغيب، ولكنها تتوفر إذا ما انتقلت المبادرة في السياسة العربية إلى يد الاصلاحيين من دعاة تطوير العلاقات البينية العربية، فأين كان بن علي من هذه الدعوات؟

كان بن علي، شأنه في ذلك شأن فريق من أهل الحكم والثروة في تونس، يقف تجاه هذه الدعوات موقفاً متعالياً . وكان موقفه تجاه التحضيرات لعقد قمة 2004 المقررة في تونس ذلك العام خير تعبير عن هذا الموقف . فعندما داخل هذه التحضيرات بعض التعقيد، أعلن بن علي قبل التئام القمة ب36 ساعة ومن جانبه وحده ودون التشاور مع الزعماء العرب الآخرين، إرجاء القمة إلى موعد غير مسمى . ذلك التدبير لم يكن مجرد إجراء عادي . فدورية القمم العربية كانت مطلب المعنيين بتطوير العمل العربي المشترك، وعندما أجّل بن علي القمة لم يكن هذا المبدأ قد ترسخ بعد، فجاء قرار التأجيل بمثابة نقض له، ومساهمة في الاجهاز على النظام الإقليمي العربي الذي بدا مترنحاً تحت وطأة التناقضات العربية، وليس مجرد تأجيل موقت لموعد القمة .

ومهما كان سبب تأجيل القمة على ذلك النحو الاعتباطي، فإنه كان من المستطاع تسويق هذا العمل لدى إدارة جورج بوش وحلفائها الصهاينة، ولدى بعض الحكام والأوساط الأوروبية ممن كانوا يرحبون بأية مبادرة تضعف النظام الإقليمي العربي . هذا الموقف على رمزيته، وعلى محدودية أهمية القمة العربية في الحسابات الدولية، كان يعكس موقف بن علي وفريقه الاستعلائي والسلبي إزاء مؤسسات العمل العربي الجماعي .

أثار سلوك بن علي آنذاك جدلاً واسعاً في الأوساط العربية، فتسلطت الأنظار عليه خلال القمة كما لم يحدث في السابق . الآن تتسلط الانظار مرة أخرى على بن علي بعد سقوطه من الحكم، وبعد التجربة التي مر بها مع دول الغرب . لقد نفذ الرئيس التونسي السابق شروط ldquo;اجماع واشنطنrdquo; بحذافيرها، وترك للأوروبيين أن يهندسوا الاقتصاد التونسي على كل صعيد، وأن يقرروا هم قبل أصحاب القرار التونسيين مصير قطاعات الانتاج التونسي بما يتناسب مع حاجات الأسواق الأوروبية وحدها . استجاب بن علي لكل طلب اقتصادي أو سياسي جاءه من واشنطن وبروكسل أو غيرها من العواصم الأوروبية على حساب علاقات تونس مع الدول العربية الأخرى . ولكن عندما سقط بن علي لم يجد من يذرف الدمع عليه أو يستقبله ويؤويه إلا في تلك الدول التي كان يدير ظهره إليها . تلك مسألة تستحق وقفة تأمل في قمة شرم الشيخ، وتستحق التفتيش عن العبر والدروس طالما أن الدهر غلاب ولا يؤمن له كما وجد حاكم تونس السابق ولكن بعد فوات الأوان .