حسن مدن

لم أنجُ بنفسي وأنا أقرأ ما نُشر عن الوضع الصحي للزعيم الإفريقي نيلسون مانديلا من حُرقة المقارنة بين سلوك هذا الزعيم الاستثنائي وبين سلوك رؤساء الجمهوريات في عالمنا العربي .

على طول سنوات السجن المؤبد التي قضاها مانديلا، فإن مدة حكم بعض رؤساء الجمهوريات عندنا قد فاقتها عدداً، وحين خرج من الأسر لينجز الفصل الأخير من مسيرة تحرير بلاده من عار العنصرية، انتخب رئيساً للجمهورية بإجماع شعبي قلّ نظيره .

ولكن عند انتهاء الأمد الدستوري لولايته أصر على ألا يترشح ثانية، مع أنه كان يملك من التفويض الشعبي ما يجعل منه رئيساً لبلاده مدى الحياة، فهو بالنسبة لشعب جنوب إفريقيا ليس مجرد زعيم، إنما هو رمز لملحمة النضال العنيد من أجل الحرية، التي كان هو على رأسها دافعاً، في سبيل ذلك، الضريبة الباهظة من حريته وسعادته .

لكنه في مسألة العلاقة مع السلطة أعطى القدوة الرائعة ذاتها التي أعطاها بسنوات سجنه الطويلة، حين غادر منصبه بإرادته الحرة، ليظل ضميراً ليس لشعبه فقط، إنما لكل المناضلين من أجل الحرية والتواقين إليها في العالم كله .

لنقارن سلوك مانديلا بسلوك رؤساء الجمهوريات في عالمنا العربي، الذين يُعدلون الدساتير مرة ومثنى وثلاثاً ورباعاً حتى يضمنوا بقاءهم في مناصبهم، لا أطول مدة ممكنة فحسب، وإنما مدى الحياة، مهيئين لورثتهم الطريق بعدهم ليصبحوا الرؤساء القادمين .

ويضع هؤلاء شعوبهم أمام محك ما بعده محك، ولسان الحال يقول: أتحسبون حكم البلدان مزحة، فلو تركنا الحكم ستخرب البلدان ويضيع مستقبلها، كأن الأمهات في دنيا العرب كففن عن إنجاب الأذكياء ممن يمتلكون الاستعداد لأن يكونوا قادة لأوطانهم ومجتمعاتهم .

وينخرط في ترويج هذا التحدي ثلة من المنتفعين والمبخرين والمخبرين أيضاً، الذين لا يردهم رادع أخلاقي عن تزييف الوعي وبث الأوهام في الأذهان لترويض الناس على قبول ما لا تقبله الفطرة السوية .

لماذا لا يكتفي رؤساء جمهورياتنا العتيدة بما هو معمول به في بلدان العالم المتحضر، فلا يمكث الواحد منهم في الحكم أكثر من دورة انتخابية أو دورتين إذا قدر له الفوز في الثانية، ليغادر قصر الرئاسة مُعززاً مُكرماً، ينصرف بعدها لكتابة مذكراته وإلقاء المحاضرات وتقديم الاستشارات وقضاء أوقات لطيفة مع أحفاده على نحو ما يفعل ساسة العالم؟

كم من الدماء والآلام والخراب والخيبات كانوا سيوفرونها لو فعلوا ذلك؟