كمال الذيـــب
رغم التطور الحاصل في العالم على صعيد الانفتاح وتراجع الأفكار السياسية المغلقة، فإن الخطاب العربي الليبرالي قد شهد خلال السنوات القليلة الماضية تراجعاً لافتاً، بالرغم من موجة (ادّعاء نشر الديمقراطية) في العالم العربي التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو تراجع لا يمس الخطاب في مضمونه وفي شكله ومداه وجرأته فقط بل يشمل التراجع قوة التأثير في الجمهور. المشكلة أن الخطاب الليبرالي العربي، منذ كان غضاً ظل محصوراً داخل نطاق ضيق لا يتخطى حدود خطاب ''الإعجاب'' بالمنظومة الفكرية والحضارية الغربية، ولذلك لم يستطع أن يتجاوز تلك الحدود ليشيد قاعدة فكرية واجتماعية تكون بمثابة ''القوة'' المناضلة التي تقود التغيير بمعناه الشامل، ولم ينتظم في حركة تملك مشروعاً أو رؤية نجد بالفعل أثر آلياتها في المجتمع، ولكنه خط لنفسه حدوداً، وأرسى أبنية فكرية هي أقرب إلى الترف الفكري منها إلى الرؤية الفاعلة والجادة للتغيير، ولذلك كان هذا التيار ومايزال إلى اليوم مجرد صوت مخنوق ومعزول عن المجتمع ''الأصلي''. المشكلة الأساسية التي يعاني منها هذا التيار الذي نحتاج اليوم إلى تعزيز وجوده وحضوره لمواجهة التشدد والتطرف، وبناء قواعد الوسطية الفكرية والسياسية، أنه لايزال، مسجوناً داخل نسق أيديولوجي مغلق عبَّر عن نفسه من خلال الثقة إلى مرتبة القداسة في النزعة المتطرفة نحو الأخذ الأعمى بالنموذج الغربي أو من خلال التبشير الفاضح اليوم بالمشروع الأمريكي على أنه مشروع للتحرر والديمقراطية، دون النظر إلى أبعاد هذا المشروع وآثاره وأخطاره علينا في المستقبل المنظور. لئن كان التراث (أو الماضي) مرفوضاً في الخطاب الليبرالي العربي فإن انزلاق هذا الخطاب إلى الانفصام الكامل عن الواقع لم يكن في رفض التراث في حد ذاته ولا في مسعاه إلى تقويض الأطر المرجعية التي تؤسس التراث وتشكله؛ إذ إن هذا المنحى لم يتبلور في شكل موقف إزاء الماضي عامة بغض النظر عن هويته عربياً كان أم غير عربي، ولكن المشكلة في أن الماضي عند المثقف الليبرالي ظل مرفوضاً ومطلوباً في آنٍ واحد؛ ومعيار المفاضلة عنده هو هوية هذا التراث ومصدره. لعل الدافع الأساس والرئيس لنزوع الليبرالي العربي نحو القطيعة مع تراثه وماضيه قد تأسس على الطريقة التي اعتمدها وهو يُعيد قراءتها من جديد، وهي طريقة تعوزها الحيادية والمنطق في آن؛ إذ إنه كان يقرأ التاريخ والثقافة العربية و''أوروبا'' المتقدمة في رأسه، أي إنه قاس ''الماضي'' العربي على ''حاضر'' العالم الغربي المتقدم الآن، وهو خلل كانت نتيجته الطبيعية والمترتبة عليه هو الحكم الظالم بجمود التراث أو تخلفه أو أيّ مرادف آخر لهما!! فهو يدَّعي أن ماضينا ''متخلف''، ومن ثم نظر المثقف الليبرالي العربي إلى حاضره وماضيه من خلال نظــرة أوروبا إليهما! ولا يخفى على أحـد نظرة الاحتقار والازدراء التــي كان -ولايزال- ينظر بها إلينا العالم الغربي. في ظل غياب الوعي بالأسباب الحقيقية للتحديث اختار المثقف الليبرالي العربي الطريق الأسهل: وهو التقليد والتشبه بالغالب المنتصر، ويبدو أنها كانت حالة اختلط فيها ''الوعي'' بـ''اللاوعي'' مدفوعة بروح الإعجاب بالغالب المنتصر، والمؤدية إلى التبعية الكاملة له والتبرؤ من كل ما يتعلق بالذات ''العربية - الإسلامية'' من خصوصية، وهوية واستقلال تاريخي، وأكثر تجسيداً لما صاغه ابن خلدون بـ''أن المغلوب يتبع الغالب في الملبس والمذهب''. النتيجة كانت جلية وواضحة، وهي أن المجتمع العربي وبعد مرور مائتـي عام مـن عمـر العرب الحديث لا يتجه نحو ''العلمنة'' ولا نحو ''الحداثة'' المستندة في مضامينها ومحتواها إلى الإطار المرجعي الغربي، ولا يعتمد النمط الرأسمالي الليبرالي، ولم يتخذه نمطاً أمثل للفرد والدولة والمجتمع، ولكنه -أي المجتمع العربي- يتجه نحو إحياء تراثه والتمسك أكثر بمرجعيته الدينية متمثلة في كتاب الله وسنة نبيه، متحدياً ما يحيط به من ترتيبات وتحولات دولية تحاول إيهامه بأن العالم كله يتجه نحو الليبرالية!
التعليقات