محمد المزعل

رحيل أربعة من رموز الليبرالية العربية في أقل من شهرين لاشك خسارة كبيرة. لكن الخسارة الأكبر أن تتلاشى رسالة هؤلاء الرموز بموتهم. وللأسف يقول تاريخنا الحديث إن التيار الليبرالي غير قادر على تجاوز مثل هذه الخسائر. ويفسح رحيل رموزه المجال واسعا لتمادي التيارات الأخرى، لاسيما المتطرفة منها، في بسط سيطرتها على الفراغ المتزايد باضطراد.
رحل أمس الأول ليبرالي عتيق. ومدافع شرس عن الحريات الفكرية. ووزير سعودي حاول، وفقا لكثيرين عرفوه عن قرب، أن يجسر الهوة بين مجتمعه والحداثة. الدكتور غازي القصيبي.
وقبل ذلك بأيام، توفي الدكتور أحمد البغدادي. وهو الذي تصدى لأحادية التفكير سنوات طويلة، ودفع ثمنا غاليا من تكفير وسجن. لم يهن ولم يكل عن مصارعة المتطرفين حتى آخر أيام حياته التي غلفها المرض العضال، كما كان الحال مع القصيبي.
يرحل الإثنان بعد قليل من رحيل الدكتور نصر أبوزيد والروائي الطاهر وطار. وهذان لا تخفى حكايتهما مع التيار الديني. أبوزيد كفرته الجماعات الإسلامية في مصر وفرقته عن زوجته في قضية laquo;الحسبةraquo; الشهيرة. وأهدر دمه ما اضطره إلى مغادرة مصر إلى أوروبا. أما الطاهر وطار فلم يترك الجزائر رغم كل التهديدات ومحاولات الاعتداء عليه. بل أصر على الكتابة والنشر حتى خلال أقسى سنوات الجمر في التسعينات حين كانت الجزائر المسرح العربي الأبرز للعنف الأصولي. ويسقط العشرات من الأبرياء كل يوم في حملة إرهابية لا تزال هي الأعنف والأكثر دموية في تاريخنا القريب. ربما لا تماثلها إلا حالة العراق في ما بعد سقوط نظام صدام حسين.
رحيل هؤلاء الأربعة مؤلم. لكن مؤلم أيضا أن يتذكر الواحد سيرتهم ليدرك أنهم عوملوا في حياتهم على الطريقة العربية التقليدية. لا يكرمون إلا بعد الموت. ولا يكتب عنهم إلا بعد الرحيل. وهي ظاهرة تجعل من تقفي آثارهم مسألة غير واضحة. لاسيما وأن جل ما سيكتب عن هؤلاء الكبار (بما في ذلك هذه السطور) احتفالي. احتفائي. ينتهي مفعوله بعد فترة قصيرة.
وربما أدرك القصيبي والبغدادي هذه الحقيقة. كما أدركها حيا تركي الحمد الذي لم يجد مدافعا عنه حين هددت حياته من قبل التيار الأصولي. محتمل جدا أن يكون البغدادي أدرك هذه الحقيقة قبل وفاته بأشهر. ما عكس ذلك على وصيته التي تعمد نشرها في الصحف في يناير الماضي. يلاحظ من وصيته غياب أي ذكر لما قتل من أجله طوال حياته. ولم يذكر في كلمة مسألة الحريات. بل جاءت وصيته على شكل تعليمات أسرية محضة لأسرته. يتحدث عن المبلغ الذي ستتسلمه الأسرة من جامعة الكويت بعد وفاته ويوصي بتقسيمه بين مبلغ يودع في البنك لصالح ابنه الأصغر أسامة. ومبلغ لتكملة قيمة بيت اشتراه في لبنان laquo;لتستمتع الأسرة في إجازتها الصيفيةraquo; هناك.
أما القصيبي فكانت وصيته على شكل قصيدة رثى فيها حاله. وشكا فيها من العناء الذي تكبده خلال حروبه مع الذين لم تعجبهم أفكاره. يقول في قصيدته محدثا نفسه:
أما مللتَ مـن الأسفـارِ مـا هـدأت إلا وألقتـك فـي وعثـاءِ أسـفـار؟
أما تَعِبتَ من الأعـداءِ.. مَـا برحـوا يحـاورونـكَ بالكبـريـتِ والـنـارِ
والصحبُ؟ أين رفاقُ العمرِ؟ هل بقِيَتْ سـوى ثُمـالـةِ أيــامٍ.. وتـذكـارِ
بلى! اكتفيتُ.. وأضناني السرى! وشكا قلبي العناءَ!... ولكـن تلـك أقـداري
ربما يريد القول أن هؤلاء laquo;الصحبraquo; لم يكونوا ليردوا عنه العناء. خاصة وأنه بدأ ذلك laquo;العناءraquo; مبكرا. وبالتحديد في عهد الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز حين نشر القصيبي ديوانه laquo;معركة بلا رايةraquo; والتي طالب الأصوليون بسحبه من الأسواق وraquo;تأديبraquo; الشاعر. ويروى أن laquo;وفوداraquo; سارت إلى الديوان الملكي على مدى أسابيع مطالبة بمنع تداول الكتاب. لكن لجنة شكلت من قبل الملك رأت أن ليس في شعر القصيبي ما يستوجب منعه.
أما آخر معارك البغدادي فكانت ربما أشهرها وهي التي شنها عليه الدينيون وكادت تودي به في السجن ثلاث سنوات في العام 2005 حين رفع أصوليون دعوة عليه بسبب مقاله الشهير laquo;أما لهذا التخلف من نهايةraquo; في جريدة laquo;السياسةraquo;. وكتب صاحب laquo;تجديد الفكر الدينيraquo; في المقال أنه يفضل لابنه دراسة الموسيقى بدلا من الدين الجديد الذي يروج له الدعاة الجدد. وبعد الحكم الابتدائي الذي قضى بسجنه عاما ووقف العقوبة ثلاث سنوات، كتب الراحل مقالا أعلن فيه نيته الهجرة عن الكويت وطلب اللجوء في laquo;أي بلد غربيraquo;. وطلب مساعدة القراء في ذلك. وكتب بمرارة يقول: laquo;لابد من الاعتراف بأن التيار الديني قد انتصر في معركته ضديraquo;. وكان قد سجن قبل ذلك شهرا بتهمة laquo;الطعن في ذات النبي (ص)raquo; في دعوى رفعها التيار الديني أيضا في العام 1999.
إن مرارة البغدادي والقصيبي وكذلك نصر حامد أبوزيد هي نتيجة فشل التيار الليبرالي العربي في الدفاع عن وجوده. واستسلامه للغول الأصولي الذي بات يسيطر على مفاصل المجتمع. ويشكل أطر التفكير والوعي في المنطقة. هذه هي الخسارة الكبرى التي منينا بها في العقود الأربعة الماضية. وبالتحديد مع بدء تراجع اليسار في السبعينات.
أن يرحل أربعة من رموزنا المجددين في وقت واحد خسارة فادحة. ولكن لا مفر من الموت. ولا راد لقضاء الله. أما الخسارة الحقيقية فهي أن يضيع تراث هؤلاء الأربعة. فتفقد معاركهم من أجل الحرية قيمتها. وهي معارك دفع فيها كل واحد منهم أثمانا باهضة. من أجلنا جميعا.