مالك التريكي

مشهدان متباعدان في الجغرافيا والسياسة، لكنهما متصلان في الزمن الحضاري. في المشهد الأول: يناشد رئيس البرازيل لولا داسيلفا الحكومة الإيرانية الرأفة بالمرأة التي حكم عليها بالرجم، ويطلب منها النزول عند رغبته في منحها اللجوء السياسي في البرازيل. ويقول 'إذا كان لصداقتي للرئيس أحمدي نجاد وتقديري له وللشعب الإيراني أي قيمة [عندهما]، وإذا كانت هذه المرأة تسبب إحراجا، فإننا مستعدون لاستضافتها في البرازيل'. ذلك هو الجانب الدبلوماسي. لكن لهذا الموقف أساسا مبدئيا أهم، حيث أن لولا داسيلفا يضيف شارحا: 'لا شىء يجيز لدولة ما حرمان أي شخص من الحياة. فالله هو واهب الحياة وهو الوحيد القادر على استردادها'.
في المشهد الثاني: يواجه عمدة نيويورك مايكل بلومبرغ عاصفة الاستنكار التي قابلت قراره السماح ببناء مسجد قرب موقع مركز التجارة العالمي الذي دكّ في هجوم 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ويعلن أن بناء مسجد في هذا المكان بالذات هو دليل تسامح المجتمع الأمريكي ورمز الوفاء للقيم الأمريكية. ويقول: 'إننا سنتنكّر لقيمنا لو أننا عاملنا المسلمين بغير ما نعامل به سواهم. لو استجبنا للموقف الشعبي [الرافض لبناء المسجد] فإننا نكون قد مكّنّا الإرهابيين من النصر علينا'. وبما أن أقرباء ضحايا إسقاط البرجين هم أشد الأطراف مناهضة لقرار السماح ببناء المسجد، فإن بلومبرغ يقول لهم إن هجمات 11 سبتمبر 'كانت عدوانا... [لكننا] لا نحيي ذكرى الضحايا بما يليق بهم من التكريم إذا منعنا [المسلمين من] الحقوق الدستورية التي مات الضحايا دفاعا عنها. بل إننا نكرمهم بالذود عن هذه الحقوق وعن الحريات التي استهدفها الإرهابيون بالهجوم'.
في المشهد الأول رئيس دولة ينتمي إلى يسار الطيف السياسي (اليسار الرشيد، لا اليسار الأهوج الذي لا تزال منه في أمريكا اللاتينية بقايا) وفى المشهد الثاني رجل أعمال من أثرى الأثرياء وسياسي ينتمي إلى يمين الطيف السياسي (اليمين الجمهوري الذي يعدّ اليمين الأوروبي التقليدي إزاءه شيوعية متنكّرة!). ومع ذلك فإنهما يلتقيان في الإيمان الحقيقي، الذي تصدّقه الأفعال، بالقيمة المحورية التي تحدد جوهر الثقافة السياسية في معظم الأمم الحية: قيمة الليبرالية. الليبرالية بما هي إيمان بالحريات، وتكريس للحقوق وتقديس للحياة. ولأن الليبرالية قاسم مشترك بين طرفي النقيض السياسي، فإن موقف عمدة نيويورك الجمهوري اليميني قد حظي بدعم كل من الديمقراطيين واليساريين (الذين يسمون 'ليبراليين' في الخطاب السياسي الأمريكي). كما أن العريضة التي نشرت على الإنترنت تطالب لولا داسيلفا بالتدخل لصالح المرأة الإيرانية قد كان من بين موقعيها، الذين تجاوز عددهم 140 ألفا، رئيس البرازيل اليميني السابق (وعالم الاجتماع) فرناندو هنريكي كاردوزو.
الموقفان اللذان اتخذهما كل من لولا داسيلفا وبلومبرغ ليسا من جنس ما يحقق مصلحة سياسية مباشرة. بل على العكس. فولاية لولا داسيلفا تنتهي بعد أقل من ثلاثة أشهر. كما أن تعبير ديلما روسف نائبته ومرشحة حزبه للانتخابات الرئاسية في تشرين الأول (أكتوبر) عن تعاطفها مع المرأة الإيرانية قد كان تعبيرا عن موقف 'إنساني'، كما قالت.
أما عمدة نيويورك فإنه لم يحجم عن اتخاذ موقفه بشأن المسجد رغم أنه كان موقنا أنه سيثير حنق قاعدته الانتخابية التي تتألف من اليهود المتدينين، والعمال البيض والجمهوريين المحافظين. ذلك أن بلومبرغ، الذي قد يتوقع منه بحكم يمينيته المضاعفة أن يركن إلى المواقف الإسلاموفوبية السهلة والمأمونة، بحكم شعبيتها، إنما يمقت التحزب السياسي على أساس إثني أو ديني ويعدّه تحجرا مما عفا عليه الدهر. ولهذا فإنه لم ينظر إلى مسألة طلب بناء المسجد قرب موقع البرجين إلا على أنها مسألة تطبيق للقوانين الدستورية وتحقيق للقيم الأمريكية.
مشهدان، متباعدان مظهرا متصلان جوهرا، يفرضان التساؤل عن الشروط التي أمّنت هذا الاتفاق السياسي الثابت على قدسية الحياة والحريات بين اليمين واليسار في الأمم الحية، لا فرق أن تكون ذات غالبية بروتستانتية أم كاثوليكية. والمفارقة أن هذه الليبرالية العلمانية ذات التراث المسيحي قد أتت، في كلتا الحالتين، في صالح مسلمين ضاقت بهم، أو جارت عليهم، مجتمعات إسلامية بلغ من إيمانها وتقواها أنها لا تنتج إلا ما ينقض الحريات وينفي مجرد احتمالاتها...