وليد نويهض
مشهد الحرائق في مصر أعاد الذاكرة إلى laquo;حريق القاهرةraquo; في 26 يناير/ كانون الثاني العام 1952. آنذاك وقعت مواجهة في مدينة الإسماعيلية (على قناة السويس) بين الشرطة المصرية وقوات الاحتلال البريطانية وأدت إلى استشهاد 40 شرطياً. وكانت الشرارة التي انتقلت إلى القاهرة وبدأت الحرائق تلتهم الفنادق والملاهي والمحلات ودور السينما ومراكز المال والتجارة ومؤسسات الدولة.
laquo;الحراقونraquo; هي التسمية التي أطلقت على مجموعات مجهولة أخذت باشعال النار في الشوارع والطرقات والأحياء. أكثر من 300 حريق شب في القاهرة من دون ان تعرف الجهة التي قررت وخططت لهذا النوع من الاعتراض. وكانت النتيجة التي انتهى إليها laquo;حريق القاهرةraquo; سقوط النظام الملكي بعد 6 أشهر وخروج فاروق من القصر ومغادرته مصر من دون رجعة.
laquo;حريق القاهرةraquo; شكل خطوة حاسمة في تعديل صورة مصر ونقلها من الملكية إلى الجمهورية. والحريق توج سلسلة تراجعات وكوارث بدأت بنكبة فلسطين في العام 1948، وصمود جمال عبدالناصر في الفالوجة التي تم تسليمها في اتفاقات رودوس العام 1949، وفضيحة السلاح الفاسد، واغتيال مؤسس حركة الأخوان المسلمين الإمام حسن البنا، وصراع أجنحة القصر، وانتشار الفقر والأمية.
مهد laquo;حريق القاهرةraquo; الطريق لثورة يوليو/ تموز التي قادتها مجموعة laquo;الضباط الاحرارraquo;. بعد ذلك التاريخ أصبحت مصر دولة جمهورية يقودها الرئيس بمعية الجيش ودخل الحريق هامش النسيان وغاب laquo;الحراقونraquo; عن المشهد.
منذ العام 1952 لم يحكم مصر الا رجال laquo;الضباط الاحرارraquo; والحلقات التي تدور حولهم. وادى صعود الجيش إلى السلطة إلى نهوض مؤسسات تعتمد على القوة العسكرية والأجهزة الخفية تحت اشراف الرئيس وقيادته. فالرئيس في النظام الجمهوري (العسكري) كان يلعب دور الضابط السياسي الذي يوازن بين المؤسسات ويوفق بين الاجنحة ويرتب قنوات الاتصال الجماهيري المباشر مع الشارع.
قوة الرئيس (محمد نجيب، جمال عبدالناصر، أنور السادات) تحولت في العهد الجمهوري إلى علامة رمزية تتمثل في دائرتها تقاطعات السلطة المشدودة إلى نقطة جاذبة هي الجيش. فالجيش كان العمود الفقري للدولة ومنه تفرعت مراكز القوى المدنية وتشعبت إلى حقول الاقتصاد (التأميمات الاشتراكية والقطاع العام) والإعلام (محطات الإذاعة والتلفزة وصحيفة الاهرام) والايديولوجيا (الاتحاد الاشتراكي). ومن مجموع هذه الفروع تأسس مشروع الدولة المركزية وما تمثله من هيبة شعبية ونفوذ إقليمي وتطلعات عربية.
استمرت مجموعة laquo;الضباط الاحرارraquo; تلعب دورها الخاص في إدارة السلطة وقادت معارك التصدي للاستعمار (حرب السويس) والاصلاحات الاقتصادية (السد العالي، الكهرباء) والثقافي (محاربة الامية) والاجتماعي (مصادرة الأراضي وإعادة توزيعها على الفلاحين) والايديولوجي (معركة دائمة مع حركة الأخوان) والعربي (مشروع الوحدة) والعالمي (عدم الانحياز بالتوازي مع سياسة التحالف مع الاتحاد السوفياتي).
شكلت المرحلة الناصرية المحطة الذهبية في انقلاب laquo;الضباط الاحرارraquo; إلى ان كانت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 ورحيل عبدالناصر في سبتمبر/ أيلول 1970 قبل أن يستكمل خطة إعادة إعمار ما دمرته الحرب (مدن السويس) وبناء الجيش لاسترداد سيناء.
جاء نائب الرئيس أنور السادات إلى موقع الرئاسة وأدار معركة ضد الجناح الناصري في الحزب الاشتراكي الحاكم وطرد الخبراء السوفيات من مصر وخاض حرب أكتوبر 1973 وبدأ التفاوض بإشراف أميركي وانتهى بعقد الصلح (كامب ديفيد) والاعتراف بـ laquo;إسرائيلraquo; والخروج من جامعة الدول العربية والانزواء إلى الداخل والبدء في سياسة الانزلاق نحو اقتصاد السوق وتفكيك القطاع العام.
اعتمد الرئيس السادات على الجيش في إدارة معارك السلطة ونجح في ذلك إلى ان سقط في حادث اغتيال المنصة حين كان يستعرض القوات في العام 1981 بمناسبة انتصار أكتوبر. وجاء النائب حسني مبارك إلى موقع الرئاسة ليستكمل عهد laquo;الضباط الاحرارraquo; ويستنزفه تحت يافطة الجمع بين الناصرية والساداتية. وأيضاً اعتمد الرئيس على الجيش ليقوم بمهماته التي أخذت تتجه رويداً من منطقة الوسط إلى الانحياز لطرف الساداتية وما تمثله من مراجعة لتركة عبدالناصر.
مكث مبارك في السلطة حتى الان نحو 30 سنة وهي تشكل في فترتها المديدة أكثر من مجموع حكم الرؤساء الثلاثة (نجيب، عبدالناصر، السادات) التي لا تزيد عن 29 سنة. وامتداد الفترة ساهم من دون شك في ترهل المؤسسات ونمو هامش الفساد (القطط السمان) وتكلس مراكز القوى وظهور شريحة من المستفيدين واضعاف دور مصر العربي والاقليمي وتوسع اعتمادها على المساعدات الأميركية المشروطة والهزيلة.
59 عاماً مضت على ثورة يوليو ولايزال الرئيس يتمتع بالقوة الرمزية إلى جانب الجيش بوصفه الحامي التقليدي للدولة. ولكن الاختلاف بين مبارك وعبدالناصر وأيضاً بين مبارك والسادات يتركز في عدم وجود مشروع واضح للدولة. عبدالناصر طرح استراتيجية متكاملة في عهده وحاول قدر الإمكان تنفيذها في السياقات المحلية والإقليمية والعربية والدولية. والسادات أيضا نجح في التخطيط لمشروع استراتيجي بديل وعمد على تطبيقه ميدانياً.
مشكلة مبارك الأساسية خلال العقود الثلاثة الماضية انه لم يكن صاحب مشروع استراتيجي كما كان الأمر في عهدي عبدالناصر والسادات. وغموض الصورة اسرع في بلبلة هوية مصر وضياع مكانتها ودورها ما ساهم في تراجع موقعها الاقليمي وغيابها عن التأثير في صنع القرارات العربية.
غموض مشروع الدولة اخذ مع الايام الطوال يؤثر في المؤسسات ويضعفها ويعزلها عن الشارع والناس في وقت كانت المنطقة تشهد متغيرات وتؤسس مراكز قوى إقليمية منافسة. وبسبب هذا الضمور التاريخي بدأت الدولة تفقد سيطرتها على الشارع ولم تعد قادرة على تلبية حاجات النمو السكاني (انتشار الفقر والجهل) ما رفع من نسبة الفوضى وأعطى فرصة لخروج الكثير من القطاعات المنتجة والاستهلاكية على المظلة التاريخية لسلطة laquo;الضباط الاحرارraquo;.
المؤسسة الوحيدة التي حافظت على هيبتها، إلى جانب رمزية الرئيس في الاعراف والتقاليد المصرية، كانت تتمثل في موقع الجيش الذي حافظ على توازن النظام وعدم سقوطه على رغم العواصف السياسية التي ضربت البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة.
الان وبعد فوات الاوان عاد laquo;حريق القاهرةraquo; إلى الظهور بعد 60 عاماً تقريباً على غيابه عن المشهد. الحراقون في كل مكان ولا تعرف هويتهم والقوة المجهولة التي تحركهم. والرئيس الذي يتحكم بالقرار دخل في حال ازدواج السلطة مع قوة الجيش (العمود الفقري للدولة) ولم يتوصل إلى اتخاذ خطوة حاسمة تكون على مستوى التوقعات وتلبي رغبات حركة الاحتجاج الجماهيرية، سوى إعلان تشكيل حكومة جديدة وتكليف عمر سليمان لأخذ موقع نائب الرئيس بعد شغور المنصب لمدة 30 عاماً.
حريق القاهرة الأول انهى العهد الملكي وادخل مصر في العصر الجمهوري. فهل يكون حريق القاهرة الثاني بداية عهد جديد ام يمتد ويرتد إلى الداخل وتنكسر ثنائية السلطة بين الجيش والرئيس؟ النيران حامية وخبر المبتدأ بات قريباً
التعليقات