خيرالله خيرالله

في أواخر اكتوبر من العام 1991، استغلت الإدارة الأميركية الانتهاء من عملية تحرير الكويت من الاحتلال العراقي لبذل محاولة جدية تعتبر الأولى من نوعها لتحقيق تسوية تاريخية في الشرق الأوسط. وقتذاك، أجبرت الإدارة الأميركية التي كان على رأسها جورج بوش الأب، فيما وزير خارجيته جيمس بيكر، إسرائيل على المشاركة في المؤتمر على الرغم من كل المقاومة التي أظهرها اسحق شامير رئيس الوزراء. كان شامير، الليكودي المتطرف، يعارض أي تسوية في حال تضمنت أي انسحاب من الأراضي العربية المحتلة. دخل في مواجهة مباشرة اتخذت طابعاً شخصياً مع جورج بوش الأب وجيمس بيكر. كانت النتيجة أنه جُرّ إلى مدريد جَرّاً.
انعقد المؤتمر على أساس احترام قرارات الشرعية الدولية، على رأسها القرار الرقم 242 الصادر عن مجلس الأمن التابع للامم المتحدة الذي يؤكد laquo;عدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوةraquo; ومبدأ laquo;الأرض مقابل السلامraquo;. على الرغم من الغموض الذي اكتنف النص الانكليزي للقرار الذي تحدث عن انسحاب من laquo;أراض محتلةraquo; بدل من laquo;الأراضي المحتلةraquo;، يظل هذا القرار في أساس أي تسوية يمكن التوصل إليها يوماً في المنطقة التي دخلت في مخاض ليس معروفاً كيف ستخرج منه.
في اكتوبر من العام 1991، شعرت الولايات المتحدة أنها تمتلك من القوة ما يسمح لها بالمغامرة في السعي إلى تسوية تاريخية في الشرق الأوسط. قبل كلّ شيء، كان الاتحاد السوفياتي على شفا الانهيار. وقد انهار فعلاً مطلع العام 1992. كانت مشاركة الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في رعاية المؤتمر شكلية إلى حدّ كبير. شعرت الولايات المتحدة أنها انتصرت في الحرب الباردة وأنه لم يعد في العالم سوى قوة عظمى واحدة. الدليل على ذلك أن أميركا استطاعت اقامة تحالف دولي واسع، شارك فيه العرب، من اجل تخليص الكويت من الاحتلال العراقي.
ما الذي تغيّر في عشرين عاماً؟ الأكيد أن أميركا تغيّرت. لم تعد القوة العظمى التي لا منازع لها في العالم. هناك قوى اخرى تتجرّأ على تحديها. تقف إسرائيل على رأس هذه القوى.
من يقارن بين الرئيس باراك أوباما وجورج بوش الأب وطريقة تعامل كل منهما مع إسرائيل، يكتشف فارقاً شاسعاً بين رئيس أميركي كان قادراً على فرض إرادته على رئيس الوزراء الإسرائيلي ومعاقبته ورئيس أميركي حالي مضطر إلى الاعتراف بأنّ اللوبي الاسرائيلي يقرر سياسة البيت الأبيض. أكثر من ذلك، سيضطر المندوب الأميركي في مجلس الأمن، بعد أيّام، إلى استخدام الفيتو لإسقاط مشروع قرار يدعو إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، في إطار حدود 1967، عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة. كلّ ما في مشروع القرار يستند إلى نصوص استخدمها مسؤولون أميركيون في وصف الدولة الفلسطينية laquo;القابلة للحياةraquo;. بكلام أوضح، ستجد الإدارة الأميركية نفسها مضطرة إلى استخدام الفيتو لإسقاط نص أصوله أميركية!
بين 1991 و2011، تغيّرت الولايات المتحدة. تغيّر الشرق الأوسط أيضاً. لكنّ إسرائيل لم تتغيّر. أما المنطقة، فإنّها تبحث عن توازنها في ضوء الزلزال العراقي الذي قلب موازين القوى ومكّن إيران من أن تكون المنتصر الوحيد من الاحتلال الأميركي للعراق ومن سقوط نظام كان يجب ان يسقط. كان مطلوباً سقوط النظام العائلي- laquo;البعثيraquo; ولكن من دون ان تحلّ مكانه تركيبة جديدة باتت طهران قادرة على التحكم بها من منطلقات مذهبية.
بين 1991 و2011، لم تتغيّر إسرائيل. كان الناطق باسم الوفد الإسرائيلي في مدريد يدعى بنيامين نتنياهو الذي يعرفه الناس تحت تسمية laquo;بيبيraquo;. انه تلميذ نجيب لاسحق شامير الذي قال في مدريد انه ما دمنا مضطرين إلى التفاوض، سنفاوض طوال عشرة أعوام. كان المهم بالنسبة إلى شامير التفاوض من أجل التفاوض وخلق واقع جديد على الأرض. تفاوضت اسرائيل مع العرب ما يزيد على عشرة أعوام. النتيجة لا تزال ايّاها. هناك رغبة في التفاوض من اجل التفاوض. المؤسف ان الولايات المتحدة باتت مقتنعة بهذه النظرية ولم تعد قادرة على القول لـlaquo;بيبيraquo; أو للمنتمين إلى مدرسته ان كفى تعني كفى وأن الاحتلال ممارسة لإرهاب الدولة.
بعد عشرين عاماً على مؤتمر مدريد، يتبين ان قلائل بين العرب عرفوا أن هناك فسحة محدودة من الوقت لابدّ من استغلالها لقطع الطريق على المخططات الاسرائيلية. احد القلائل الذين استغلوا تلك الفسحة هو الملك الحسين، رحمه الله، الذي سارع إلى استغلال وجود اسحق رابين في السلطة وتوصل في العام 1994 إلى اتفاق السلام الذي اعاد إلى الاردن حقوقه في الارض والمياه وأوجد في الوقت ذاته حاجزاً في وجه مشروع laquo;الوطن البديلraquo; الذي لا يزال في اسرائيل من يؤمن به. يبدو اتفاق السلام الاردني- الفلسطيني وكأنه الشيء الوحيد الذي بقي من مؤتمر مدريد. رسم الاردن بخطوته الشجاعة حدود الدولة الفلسطينية التي لا مفرّ لاسرائيل من الاعتراف بها يوما... في حال بقي مجال لتسوية تاريخية تؤمن حدّاً ادنى من الحقوق الفلسطينية التي هي حقوق شعب موجود على الخريطة السياسية للشرق الأوسط. ربما كان ذلك في حاجة إلى مؤتمر جديد على غرار مؤتمر مدريد.
اسرائيل لم تتغيّر. انها تجد نفسها في موقع قوي بسبب الضعف الاميركي أولا. ولكن على الرغم من هذا الخلل، لا يمكن تجاهل ان الفلسطينيين ليسوا سلعة كما يتصور المشاركون في مؤتمر طهران الأخير. هناك عقل فلسطيني جديد بات يفرق بين الممكن والمستحيل ولا يتجاهل موازين القوى في العالم والمنطقة. هناك عقل فلسطيني يعرف ان لا وجود لشيء اسمه التفاوض من اجل التفاوض، لكنه يعرف ايضاً ان الشعارات لا تصنع دولة وانّ رفع الشعارات الكبيرة من نوع تحرير فلسطين من النهر إلى البحر اكبر خدمة يمكن تقديمها لاسرائيل...