مـحـمـد بن علي الـمـحـمـود

كنتُ قد أكدت في المقال السابق عن أحداث مصر ، أن الغاضبين / المُحتجين الذين هم وقود الأحداث الراهنة مختلفون جدا ، مختلفون فيما بينهم إلى درجة التضاد ، بل والتضاد التام أحيانا ، وأن لا هوية فكرية تجمعهم ، ولا رؤية إيديولوجية تُلمّ شعثهم المتبعثر على فضاءات ميادين هذا البلد العريق . كما أكدت على أنها حالة غضب ، ولكلّ غضبه الخاص ، وأن الغضب حالة عاطفية آنية ، تخفت أو تضمحل بتواري مصدرها أو ضمور تأثيره ، وأنها ( = حالة الغضب ) قد تقود الغاضبين سلبا أو إيجابا إلى أبعد مما يتوقعون .

( ثورة ) شبابية ؛ كما يُحب أن يسميها كثير من الوجدانيين . أيضا ، يؤكد الواقع على أنها ( ثورة ) لم تكن لتحدث على هذا النحو ؛ لولا ثورة الاتصالات الحديثة التي استثمرها هؤلاء الشباب إلى أقصى حدودها

لكن ، مع كل هذا ، يُجمع المراقبون من جهة ، كما يؤكد الواقع من جهة أخرى ، على أن هذا الغضب هو غضب شبابي ، أو ( ثورة ) شبابية ؛ كما يُحب أن يسميها كثير من الوجدانيين . أيضا ، يؤكد الواقع على أنها ( ثورة ) لم تكن لتحدث على هذا النحو ؛ لولا ثورة الاتصالات الحديثة التي استثمرها هؤلاء الشباب إلى أقصى حدودها ، في الوقت الذي وقفت فيه الأنظمة التقليدية منها ( = ثورة الاتصالات ) موقفا ارتيابيا ومتحفظا ، تحاول من خلاله أن تأوي إلى جبل يعصمها من طوفان العصر الحديث !.

لابد من البحث عن هوية لهذا الغضب ، لابد من تحديد بواعثه ، حتى ولو كانت بواعثه خفية ، أو خافتة ، أو غير مباشرة ؛ من أجل توقعٍ أدق لما يمكن أن تكون عليه الأحداث الراهنة ، ومن ثم ، لما يمكن أن يكون عليه المستقبل القريب..

إن شبابية هذا الغضب ، وانتماءها لجيل ثورة الاتصالات ، هما من مشخصات هذا الغضب ، لكنهما لا يكفيان لتحديد هوية هذا الغضب الجميل . كما أن الرايات واليافطات والشعارات الهامشية التي رافقت الأحداث ، والتي تحمل هموماً أيديولوجية ضيقة ، أو هموماً طائفية خاصة ، لا تستطيع الرقي إلى مستوى منح هذه الأحداث هوية جامعة ؛ فضلا عن كونها ، زيادة على هامشيتها ، متضادة ومتنافرة ؛ بحيث يستحيل أن تجتمع في تيار واحد ، أو على هدف واحد ، يتجاوز حالة الغضب التي تسكن قلوب الملايين .

عندما سئل بعض الشباب المسؤولين عن صناعة هذه الأحداث ، عن أهدافهم من حيث العموم ، قالوا جميعا : الحرية والديمقراطية . أي أن ما حرّكهم لم يكن هدفا أمميا ذا منحى عروبوي أو إسلاموي ، ولا إيديولوجيا ضيقة لا تتسع إلا لأتباعها ، وإنما هي مبادئ إنسانية عامة ( = الحرية الديمقراطية ) مبادئ تعولمت بفعل ثورة الاتصالات ؛ رغم كونها غربية المولد والنشأة ، غربية الصناعة والتصدير !.

لا شك أن هاتين الركيزتين ( = الحرية الديمقراطية ) هما ما اتفقت عليه جموع المحتجين في كل المدن المصرية التي طالبت بنظام جديد ، بنظام لا هوية له إلا الحرية ، ولا إطار ينتظمه إلا الإطار الديمقراطي القائم على مبدأ المساواة بين جميع المواطنين . هذا هو الإطار/ الشعار العام لهذا الاحتجاج الكبير .

ولقد دخل تحت هذا الشعار جميع المحتجين والغاضبين ؛ حتى أولئك الذين تتعارض إيديولوجياتهم الخاصة صراحة مع مضمون هذا الشعار ؛ ظناً منهم أن تحقيق غايات هذا الشعار من شأنه أن يفتح لهم الطريق إلى الهدف الخاص المنشود .

لا شيء في هذه ( الثورة ) ينتمي إلى تراثنا المجيد ، فضلا عن أن ينتمي إلى الرؤى الخاصة بالتقليدية والتقليديين في تراثنا . المفردات التي ترددت بقوة في هذه الأحداث ، وكانت محور التخاطب والتخاصم ، هي : الحرية ، الديمقراطية ، الانتخاب الشعبي ، حق الاحتجاج ، حق التعبير بلا حدود ، الوطن والمواطنة ، الرقابة على المال العام ..إلخ ، كلها مفردات جديدة على تراثنا ، كلها مفردات آتية من الغرب ، بل وليس من كل الغرب ، وإنما هي ، بالتحديد ، آتية من التراث الليبرالي الغربي الذي صنع ( ولا يزال يصنع ) هذا العالم الحديث .

شعوبنا ، كبقية شعوب العالم ، لم تكن تدري من قبل ، ما الحرية ، ولا الديمقراطية ، ولا ما هو حق التعبير . شعوبنا العربية والإسلامية ، كبقية شعوب العالم ، عاشت عشرات القرون ، وهي لا تعرف أن لها حقوقاً في المساواة التامة بين جميع المواطنين ، وأن من حقها العيش بحرية ، وأن الجميع شركاء متساوون في الوطن الواحد ، الذي هو وطن الجميع .

إن هؤلاء الشباب ليسوا نتاج ثقافة التقليد والتبليد ، ليسوا نتاج التتلمذ على ( نونية ) فلان ، ولا على ( منهاج ) علان ، بل هم النتاج الواقعي للانفتاح اللامحدود على ثقافة الغرب ، وعلى حياة الغرب ، تلك الحياة التي هي التجسيد الحي الملهم لثقافة إنسانية من حيث هويتها ، ثقافة كانت منذ قرنين أو ثلاثة ، ولا تزال إلى اليوم ، بل وإلى الغد ، تلهم الأجيال تلو الأجيال ، من أقصى الشرق المنغولي إلى أقصى أدغال الأمازون ؛ لتصل بالإنسان إلى أقصى ما فيه من ( إنسان ) .

إن مبادئ الغرب الليبرالي لم تكن في وقت من الأوقات قريبة من الناس كما هي اليوم ، وكل ذلك بفعل ثورة الاتصالات التي مكنت الجميع من رؤية هذه المبادئ في وقائع حية نابضة بالحياة ، وقائع حية تتجاوز فرضيات التنظير . بل إن ثورة الاتصالات في حد ذاتها ، هي ظاهرة غربية ذات أفق ليبرالي صريح . وهذا يتضح من خلال موقف التقليديين في كل العالم ، وموقف كل الثقافات الشمولية التي تلغي الفرد لحساب المجموع ، وموقف كل الأنظمة الشمولية الاستبدادية ، من هذه الثورة الاتصالاتية التي تسببت في إيقاظ ملايين الغافلين ، وكانت صاحبة الفضل في تنبيههم على حقوقهم التي لم تكن من قبل تخطر لهم على بال .

موجة الاحتجاجات في تونس ، ثم في مصر ، والتي أسقطت رؤوس النظام في كلا البلدين ، لم تكن لتنتهي إلى ما انتهت إليه ؛ لولا الضمير العالمي الذي يقف الغرب على سدانته منذ تكوّن هذا العصر الحديث . كان من الممكن أن تُقمع هذه الاحتجاجات ، كما قمع غيرها من قبل ، وأن تسحقها جيوش المستبدين . لكن ، كان الضمير العالمي يراقب عن كثب ، ووسائل الاتصال الحديثة ترصد بالدقة كل ما يجري ، ولم يكن بإمكان أي أحد أن يتجاوز هذا الضمير العالمي الذي قال صراحة : لا لمواجهة هذه الاحتجاجات بالعنف ، بل لم يكتف بذلك ، وإنما دعم معنويا موقف هؤلاء الغاضبين .

إذن ، المبادئ التي قامت عليها هذه الاحتجاجات / الثورة ( = الحرية ، الديمقراطية ، حرية التعبير ، حق الاقتراع ، المساواة في المواطنة المدنية ..إلخ ) وتوسلت بها ، هي مبادئ غربية ليبرالية صريحة في ليبراليتها ، والوسيلة التي مكنت من تفعيلها وتعميمها (= ثورة الاتصالات : الإنترنت والفضائيات ورسائل الجوال ) هي وسيلة غربية ليبرالية ، والضمير العالمي الذي حماها ودعمها ( ولولاه لهزمت في أقل من ساعة ) هو ضمير غربي ليبرالي ظل يراقب المشهد باهتمام كبير ، وبتدخل معنوي كبير أيضا .

لقد قال قادة الغضب كلمة تختصر هوية الغضب ، قالوا : نريد أن يكون التأسيس بلا قيود . ورغم لا معقولية / واقعية هذه المقولة في سياق المكان الثقافي ؛ إلا أنها ، في تقديري ، تتضمن ما يكفي للكشف عن الملامح العامة التي تؤطر هوية هذا الغضب الباحث عن مستقبل واعد ، مستقبل لا ينتمي إلا إلى روح العصر ، ولن يضيره احتضان بعض الهويات ، مهما كانت درجة تقليديتها أو تزمتها أو ماضويتها ؛ لأن الفضاء الليبرالي فضاء واسع من الحرية ؛ بحيث يسع خيارات الجميع..