شريف عبدالغني
(للأسف ما يفعلونه لا ينعكس على مصر وحدها بالسلب، وإنما يمتد إلى بقية العالم العربي، فما يحدث في laquo;القلبraquo; لا بد أن يؤثر على الأطراف، وأي خطوة ديمقراطية في المنطقة ستصاب بانتكاسة وستعود للخلف خطوات نتيجة ما يحدث في القاهرة من هذا الهراء الديمقراطي. وستبدو مصر في صورة علاء ولي الدين في فيلم laquo;الناظرraquo; الذي خرج في مظاهرة مع أنصاره من مدرسته ضد الاحتلال الإنجليزي، وراح يهتف ضد المحتلين، لكنه مع أول طلقة رصاص تواجه المسيرة أمر المتظاهرين بالعودة إلى المدرسة هاتفاً بأعلى صوت: laquo;لفّ.. وارجع تانيraquo; وهم يرددون خلفه!
هذه ليست مصر التي نحلم بها. لقد أمموها لحسابهم وجعلونا ضيوفا غير مرغوب فيهم. حوّلونا إلى أضحوكة العالم، وأقاموا وطنهم الخاص بهم.. وطن العار!!).
هذا بالنص ما كتبته قبل ثلاثة أشهر في laquo;العرب - الثلاثاء 14 ديسمبر2010raquo; تعليقاً على نتائج انتخابات مجلس الشعب المصري، والتي كانت فضيحة بكل المقاييس الدولية؛ حيث فصلّها نظام مبارك على مقاس الحزب الحاكم فقط، واستبعد كل الأصوات المعارضة، كما طال الإقصاء الأصوات المحترمة داخل الحزب نفسه، والتي طالبت بتحجيم دور أحمد عز أمين التنظيم، وإمبراطور الحديد، والصديق الصدوق لجمال مبارك. كانت تلك الانتخابات من أسباب ثورة الغضب النبيلة النظيفة النقية التي أعادت الوجه الجمالي لمصر والمصريين، وستغير وجه المنطقة بأكملها. مثلما كان تأثير القاهرة حاضرا بقوة على محيطها العربي والإفريقي وفي عموم العالم الثالث سواء بالسلب أو الإيجاب، فإنه سيأخذ بالتأكيد منحى جديدا بعد نجاح الثورة الثانية التي أطاحت بأحد أعتى الأنظمة القمعية الفاسدة في العالم. حينما اندلعت ثورة 23 يوليو 1952 وخلّصت مصر من الاحتلال البريطاني، سار العالم العربي خلف الثورة المصرية وتفجرت روح الاستقلال من المحيط إلى الخليج، ولما سارت القاهرة في طريق المفاوضات مع إسرائيل ووقعت معاهدة laquo;كامب ديفيدraquo;، انتهج العرب نفس النهج ورفعوا راية الجلوس مع laquo;العدوraquo; وتسابقوا في طرح المبادرات السلمية لينتهي الأمر باتفاقيتي laquo;أوسلوraquo; و laquo;وادي عربةraquo;.
الآن وقد استعدنا laquo;مصرناraquo; وقضينا على laquo;وطن العارraquo; الذي أقامه لنفسه مبارك وضم إليه فريق المنتفعين والأفاقين وقتلة الشعب، في الوقت نفسه الذي قام بطردنا منه ليتشرد من يتشرد، وليهاجر من يهاجر، ومن تبقى عاش في غربة داخل بلده وانزوى بعيدا، فإن أمامنا فرصة تاريخية لإعادة صياغة عقد جديد في العلاقة بين السلطة والشعب في عموم المنطقة العربية، وإقامة نظام ديمقراطي حقيقي ينعكس بالخير على الجميع، وبدلا من أن تقول مصر للعالم العربي laquo;لف وارجع تانيraquo;، فإنها ستشد محيطها وأشقاءها إلى الأمام دائما لنصل سوياً إلى المكانة التي تتسق مع العالم المتحضر.
في ظل نشوة الانتصار والروح الجديدة التي بثتها دماء شهداء الثورة وأبطالها في نفوس العرب، يبقى أن يكون المسعى الذي تتوجه إليه جهودنا هو إقامة دولة مدنية عصرية، لا تمييز فيها، المواطنة أساسها، والإصلاح شعارها، والديمقراطية تاجها. المطلوب نظام برلماني حقيقي يتيح تداول السلطة بين أحزاب أو جماعات أو حتى جمعيات سياسية، حسب ظروف كل بلد، ويتولى رئيس الحزب الفائز بأكبر عدد من المقاعد النيابية، تشكيل الحكومة على أن تكون السلطة الفعلية في يده وليس في يد الحاكم، الذي يكون منصبه شرفياً على غرار ما يحدث في بريطانيا أو الهند وغيرهما.
الدستور المنشود الذي يتضمن كل هذا موجود بالفعل في مصر، وهو دستور 1954 الذي لم يطبق، وتم إلقاؤه في صندوق مهمل بأحد المخازن، ولم يعثر عليه من وقتها سوى الكاتب الصحافي الكبير صلاح عيسى، والذي أصدره في كتابه البديع laquo;دستور في صندوق قمامةraquo;، ويأخذ مشروع هذا الدستور -الذي لعب الراحل عبدالرازق السنهوري أحد أهم فقهاء القانون العرب- بمبدأ الجمهورية البرلمانية وينطلق من منزع ليبرالي صرف ويضع صياغات رفيعة المستوى، تضمن للبرلمان أن يكون مؤسسة الحكم الرئيسة التي تدور حولها كل سلطات الأمة ممثلة في مجلس النواب.
ويكون الفصل في صحة عضوية أعضاء المجلس من اختصاص المحكمة الدستورية حتى لا يكون المجلس laquo;سيد قرارهraquo;، وهي الكلمة التي كانت مثل laquo;اللبانةraquo; في فم فتحي سرور رئيس البرلمان المصري في العصرraquo;المباركraquo;، يمضغها دائما كلما صدر حكم قضائي ببطلان عضوية نائب من الحزب الوطني غير المأسوف على شبابه، فضلا عن اختصاص مجلس النواب بمناقشة ميزانية الدولة باباً باباً.
وبحسب ذلك الدستور أيضاً يكون مجلس الوزراء مسؤولاً أمام البرلمان، وللبرلمان حق مساءلة وسحب الثقة من الوزارة كلها أو من أحد وزرائها، وعندما يحدث هذا يجب استقالة من سحبت الثقة منه. كما ينص الدستور على محاكمة رئيس الجمهورية إذا ارتكب ما يبرر ذلك بقرار أغلبية أعضاء المجلس وتتم المحاكمة أمام المحكمة الدستورية العليا.
وحظر الدستور محاكمة أحد أمام محاكم خاصة واستثنائية وكذلك محاكمة مدنيين أمام محاكم عسكرية. وحرّم دخول البوليس المنازل ليلا إلا بإذن من السلطة القضائية كما ينص على أن لمن حكم عليه بحكم نهائي خاطئ الحق في المطالبة بتعويض من الدولة. ونص كذلك على أنه لا يجوز تقييد إصدار الصحف بترخيص ولا يجوز الرقابة عليها أو إيقافها أو مصادرتها بطريق إداري. وقيّد حق رئيس الجمهورية في إبرام معاهدات وأنها لا تكون نافذة إلا بعد تصديق مجلس النواب عليها.
حقيقة لا أفهم كل الجدل حول تعديل هذه المادة أو تلك في الدستور المصري المعيب في عهد مبارك، والذي رسخ كل السلطات في يده وجعل منه فرعونا لا رادّ لرأيه ولا مراجعة لقراره. هذا الدستور سقط مع مبارك والحل في laquo;دستور 1954raquo;، وتخيلوا وضع مصر لو جرى تطبيقه قبل 57 عاما. عموما الفرصة ما زالت سانحة لوضعه والعمل به، ووقتها ستنتقل آثاره الإيجابية إلى العالم العربي. أما غير ذلك فسنكون كلنا في laquo;صندوق قمامةraquo; الدول الكبرى، وحينها لن يستطيع laquo;صلاح عيسىraquo; أو غيره العثور علينا!!
التعليقات