عبدالعظيم محمود حنفي

لا نجد أدنى صعوبة في ملاحظة أن الاتجاه الرئيسي في الكتابات العربية والغربية التي عنيت برصد حالات التحول الديمقراطي على الصعيد العربي تُجمع على أن الدول العربية تمثل laquo;ظاهرة استثنائيةraquo; بالنسبة إلى الظاهرة التي اتخذت طابعا laquo;عولمياraquo; منذ ثلاثة عقود، حتى بدت هذه المنطقة من العالم كأنها مستعصية على الإصلاح من داخلها، رغم تزايد وتيرة المطالبة بالإصلاحات السياسية لاسيما مع تزايد الإحباطات الاقتصادية وتزايد الفساد. وتستند المطالبات إلى تغيير الدستور كأحد الأركان الرئيسية في عملية الإصلاح السياسي. ونسوق للتحديد التجربة المصرية في تعديل الدستور، فمع أن الرئيس حسني مبارك اشتهر بحبه للاستقرار، فإن عدد التعديلات التي أدخلها على ذلك الدستور يتفوق بمراحل على أي عدد من التعديلات أدخل على أي وثيقة دستورية في مصر منذ بدأت مصر تطورها الدستوري في سنة 1866. وذلك أيضا رغم تصاعد الدعوات لتعديل العديد من مواد دستور 1971؛ لأنه جرت صياغته في ظل أوضاع وطنية وعالمية، لحقتها تغيرات جوهرية منها انتقال مصر إلى نظام تعدد الأحزاب خلفا لنظام أقرب إلى الحزب الواحد، وتحولها تدريجيا إلى الاقتصاد الرأسمالي بدلا من الاقتصاد القائم على التخطيط والملكية العامة لأدوات الإنتاج، ولكن أخذت التعديلات تتسارع منذ سنة 2005 بتعديل لحق المادة 76، وأدخل مبدأ الانتخابات التنافسية في رئاسة الجمهورية بدلا من الاستفتاء على شخص واحد، ثم جاءت تعديلات سنة 2007 التي طالت 34 مادةً في الدستور. الأمر المهم هنا ليس عدد التعديلات، ولكن مضمونها وأسلوب إقرارها. واقع الأمر أن طلب إعادة النظر في المظاهر الهيكلية للدستور المصري كان محقا وصائبا تماما فلا يجادل أحدٌ في أن هناك مشكلة بنائية تواجه النظام السياسي المصري تتعلق بأسسه وقواعد حركته، وهي أوضاع تراكمت على مدى السنوات منذ 1952 بشكل أفقد النظام السياسي منطقه الداخلي وتناسقه، ذلك أن كل نظام سياسي لا بد أن يمتلك منطقا داخليا يحدد قواعد التعامل بين مؤسساته وقواعده الرسمية وغير الرسمية وأساس العلاقات بين النخب الحاكمة والنخب الأخرى وبالذات قواعد انتقال السلطة. كل هذا يتعلق بقضية رئيسية في تحليل النظم السياسية والقضية هنا تتعلق بمصدر العلاقة بين الدولة والمجتمع أو العلاقة بين المؤسسات والهياكل السياسية والقوى والتيارات الاجتماعية الفاعلة. المشكلة في مصر هي عدم التناسق بين الأطر القانونية والممارسات الفعلية وبين المؤسسات الدستورية والحزبية والقوى الاجتماعية الفاعلة. وعبرت تلك المشكلة عن ذاتها في القوانين التي كانت تصدر في مناسبات معينة ولمواجهة مواقف بذاتها وعرفت مصر وفق هذا المنطق قانون العيب وقانون الوثائق وقانون الأحزاب السياسية. فهل حلت التعديلات الدستورية التي جرت على الدستور المصري المشكلة البنائية التي واجهت النظام السياسي المصري فيما يتعلق بأسسه وقواعد حركته؟ نجد أن تلك التعديلات انصب عدد كبير منها على المواد المتعلقة بالمقومات الأساسية للمجتمع، خصوصا ما يتعلق منها بالطبيعة الاشتراكية للاقتصاد، وعلى تلك المواد المتعلقة بنظام الحكم. فقد جرى تفصيل شروط الترشح لمنصب رئيس الجمهورية في المادة 76 على نحو لا يسمح لمن لا يرضى عنه الحزب الوطني الحاكم أن يترشح، ولا أن يحكم مصر غير من يرشحه هذا الحزب، والمشكلة هنا تكمن في أن الانتخاب لن يكون انتخاباً، خصوصاً إذا تذكر المرء عدم التكافؤ البنيوي للأحزاب والمرشحين في انتخابات برلمانية أنتجت دائماً غالبيات مؤيدة للنظام. بمعنى آخر، لا يجري اختيار المرشح للرئاسة إلا إذا كان حزبه له على الأقل %5 في مجلس الشعب ويحصل على تزكية عدد لا يقل عن 250 عضواً من مجلسي الشعب والشورى والمجالس المحلية. وهم نواب كان الحزب الحاكم اختارهم في وقت سابق. وتستجيب هذه الترتيبات تماماً للعلاقات القرابية الأبوية، وإن كانت مواتية لأي مرشح يحظى بتأييد الرئيس الحالي أو النظام ككل. وليس من الصعب فقط تخيل أي شخص على رأس نظام استبدادي ينفذ سياسات تحد من سلطات هذا النظام ذاته وتحوله إلى ديمقراطية يمكن فيها تنحية الحكام من قبل المحكومين، فمن الصعب بالقدر ذاته أن نرى كيف يمكن لأفعال فرد واحد أن تغير بشكل أساسي نظاماً قائماً من هذا النوع. فانطلاقاً من أن الديمقراطية لم تنشأ أبدا، ولا يمكن أن تنشأ، بمرسوم من فوق، لا بد أن يكون هناك على الأقل ائتلاف قوي من أجل التغيير، ويمكن إدراك محدودية تأثير الزعماء الشباب الجدد في المغرب والأردن وسوريا؛ حيث تولى السلطة الأبناء الذين قاموا بـ laquo;تحديثraquo; الأنظمة الاستبدادية التي ورثوها، لكن تأثيرهم كان من نواحٍ كثيرة أضعف ومقصوراً على اختلافات في نمط الأداء فحسب بالمقارنة مع الماضي. وعلاوة على المادة 76 تم تعديل المادة 88 لإسقاط مبدأ الإشراف المباشر للقضاء على هذه الانتخابات حتى لا تشوب الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية في مصر شبهة التعبير الأمين عن إرادة شعبية يحميها القضاء، كما لم يتم المساس بالمادة 79 التي تجعل مدة رئيس الجمهورية مفتوحة. أحزاب المعارضة الرئيسية، كذلك منظمات المجتمع المدني والحركات السياسية ذات المصداقية اعترضت عليها بشدة، كما أن خبراء القانون الدستوري قد انتقدوا تحديدا هذه المواد. وهكذا أصبح دستور البلاد، والمفترض أن يكون موضع الإجماع، وثيقة تفتقد الإجماع الوطني حولها. فبدون انتخابات حرة ونزيهة، وبدون رقابة حقيقية وفعالة على السلطة التنفيذية من جانب مجالس نيابية تتمتع فيها المعارضة بوجود فعال لن يكون هناك تداول للسلطة ولا احترام حقيقي لحقوق الإنسان، ولا تكون هناك فرصة لأي تطور سياسي نحو أوضاع أكثر ديمقراطية. ولذا سيظل الحزب الوطني الديمقراطي في مصر متربعا على سدة الحكم. وهكذا عض المطالبون بتعديل الدستور أصابع الندم على دعوتهم وكفاحهم المستميت من أجل تعديل المظاهر الهيكلية للدستور المصري.
إن الطريقة التي تتعامل بها النظم العربية مع ما يمكن تسميته بـ laquo;أبي القوانينraquo; قد أسقطت عنه طبيعته السامية، وجعلت منه مجرد وثيقة تعكس رغبات حاكم فرد، ولا تحظى بالإجماع الوطني، وتصبح مجرد ورقة تستخدم من جانب طرف واحد في الصراع السياسي، بدلا من أن تكون المرجع المرشد لدى كل الفاعلين السياسيين يحتكمون إليها عندما يحتد بينهم الخلاف، ويرتضون بما تقضي به نصوصها أياً كان تأثيرها على مصالحهم.