السيد ولد أباه

من الضحايا الأولى للثورات العربية الأخيرة تيار كامل من المثقفين والإعلاميين الذين امتهنوا التزلف للدكتاتوريات المنهارة، فإذا بهم في مواجهة أليمة مع حقائق جديدة على الأرض لم يتوقعوها. استمعت للصحفي التونسي المشهور يعتذر للشعب عن دفاعه المستميت عن الرئيس المخلوع الذي كان من أقرب الناس إليه، مدعياً انه لم يكن مطلعاً على حقائق الأمور وبواطن الأوضاع.

سمعت العبارات نفسها من الناقد المصري اللامع الذي دخل الحكومة في الأسبوع الأخير من حكم مبارك قبل أن يستقيل في لحظة النهاية الدراماتيكية.


لا أتحدث هنا عن صغار الكتاب والمثقفين، وإنما عن صنف آخر من المفكرين الذين عرفوا بإنتاجهم العلمي المتميز وبأطروحاتهم التنويرية ومنافحتهم عن قيم الحرية والديمقراطية، ثم انتهوا إلى الانسياق في مشاريع استبدادية أحادية، سوغوا للدفاع عنها والتبشير بها عدتهم البرهانية وصناعتهم الخطابية.

والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن جانباً كبيراً من النخب الفكرية في تونس ومصر اندمج في البنية التسلطية للنظامين المنهارين، من بينها وجوه مرموقة عرفت من قبل بمعارضتها لأنظمة الحكم وتمسكها بقيم quot;التمردquot; وquot;النقدquot; التي كانت السمات المميزة للمثقف quot;المنشقquot; بحسب اصطلاحات quot;اليسارquot; الراديكالي السائدة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

أعرف مثقفين بارزين في تونس وقفوا بشدة وحزم ضد الميول الاستبدادية لنظام quot;بورقيبةquot;، وتحولوا في حقبة quot;بن عليquot; إلى حاشية للنظام، مع أن quot;بورقيبةquot; كان ndash;على الرغم من استبداديتهndash; زعيماً وطنياً مثقفاً نظيف اليد.

كما أعرف في مصر مثقفين من النوعية ذاتها تحولوا إلى فاعلين نشطين في استراتيجية توريث الحكم في السنوات الأخيرة من عهد مبارك، بعد أن اشتهروا بأعمالهم العلمية الرصينة حول قضايا الإصلاح السياسي والتناوب الديمقراطي على السلطة.

وفضلاً عن ما يتبادر إلى الذهن من دوافع انتفاعية ووصولية تفسر مواقف النخبة المذكورة، فإنquot;التبريراتquot; الثاوية وراء تحالف بعض كبار المثقفين التونسيين والمصريين مع نظامي الحكم المتهاويين تتمحور في ثلاث حجج برهانية رئيسة:

أولاها:الرهان على القدرة على تغيير النسق القائم من الداخل، مما يبرر الاندماج والتموقع فيه. يستند هذا التصور الى تقويم سلبي لتجارب المعارضة الراديكالية والانشقاق الثوري التي لم تؤد إلى إحداث التغيير المنشود في العقود الماضية. فبحسب بعض النماذج النظرية التي انتشرت على نطاق واسع في الدراسات الاجتماعية، تتمنع تركيبة المجتمعات العربية على التحول الديمقراطي لأسباب تعود للبنيات العصبية الأبوية (هشام شرابي وحليم بركات..) أو لأسباب ثقافية دينية (صادق جلال العظم وعزيز العظمة)، أو لأسباب تتعلق بنمط الإنتاج الريعي القائم (إيليا حريق )...

وينتج عن هذا التصور الرهان على إمكانية التأثير في مراكز القرار من خلال مواقع الاستشارة وهياكل الإدارة. ولعل أجلى تعبير عن هذه الاستراتيجية هي فكرة تجسير الفجوة بين المفكر وصانع القرار، التي شكلت الإطار المنهجي لموقف الكثير من المثقفين إزاء أنظمة الحكم.

بيد أن المثقفين المصريين والتونسيين الذين انساقوا في هذا الوهم، لم يدركوا منذ البداية حجم انغلاق النسق التسلطي واستحالة إحداث التغييرات المقصودة فيه. وما حدث هو أن النظام الاستبدادي تدعم في واجهته الإيديولوجية وأدائه البيروقراطي باندماج النخب الفكرية الوافدة إليه، بدل أن تخف قبضته الكليانية.

ثانيتها: الرهان على التحالف مع المؤسسة العسكرية ضماناً لتماسك الدولة واستقرارها، في مجتمعات هشة البناء الداخلي، معرضة لتحديات التحديث وبناء المواطنة.

وليس هذا الرأي بالجديد، ولقد بلوره منذ الستينيات المفكر المصري أنور عبدالملك في طرحه لخيار تحالف الضابط والمثقف بديلاً من ائتلاف المثقف العضوي والطبقة العاملة، الذي لا يتلاءم مع واقع المجتمعات العربية.

إلا أن الجديد في الأمر، هو الإقرار بواقع عسكرة الحياة السياسية العربية، نتيجة لانحدار كل رؤساء الجمهوريات العربية من مؤسسة الجيش التي أظهرت قدرتها في حالات ملموسة على الإمساك بمقاليد الحكم ولو بثمن التدخل المباشر لقلب الحالات الديمقراطية القليلة (السودان والجزائر وموريتانيا). فما دامت آفاق التناوب الديمقراطي ممتنعة، فإن الخيار المتاح هو تقاسم السلطة مع القيادات العسكرية من خلال التأثير في القوالب التنظيمية والحزبية، التي تتيح من خلالها فرص المشاركة السياسية.

بيد أن التحول الكبير الذي أثبتته الأحداث المصرية والتونسية الأخيرة هو أن أنظمة الحكم التسلطية لم تعد تتحكم في الواقع في المؤسسة العسكرية لسببين رئيسيين هما: تضخم الأجهزة المخابراتية والأمنية في هياكل الحكم على حساب الوحدات العسكرية المهمشة تحسباً للانقلابات، وبروز جيل جديد من الجيوش المحترفة العازفة عن الحكم على غرار الجيل الحالي من القيادات العسكرية التركية التي رفعت الوصاية المفروضة على المجتمع السياسي.

ثالثتها: وهم تحالف quot;القوى التحديثية والعقلانية quot;ضد التيارات الموسومة بالظلامية والتطرف، مما يبرر إعطاء الأولوية للقيم الناظمة للمرجعية الديمقراطية على آليات التنظيم الديمقراطي الشكلية التي يمكن أن تكون خطراً على الديمقراطية نفسها إذا كانت موازين القوى في صالح المجموعات quot;المتشددةquot;.

ولا شك أن هذا الوهم يفسر تواطؤ كثير من المثقفين التونسيين مع الرئيس المخلوع quot;بن عليquot;، الذي استثمر بمهارة قناعه العلماني التحديثي، مما نجد له شواهد في الساحة المصرية أيضاً.

وفضلاً عن كون الاتجاه الإسلامي عنواناً عريضاً لمشارب ومدارس شتى (من بينها في تونس على سبيل المثال تيارات يسارية وأخرى ليبرالية على غرار النموذج التركي)، فإن النتيجة التي أفضى إليها تحالف قوى التحديثquot; هي تبديد المخزون الرمزي والمعياري لقيم التنوير والعقلنة والحداثة التي استخدمت غطاء إيديولوجياً لتكريس الاستبداد والأحادية، ففقدت لدى قطاع واسع من الرأي العام صدقيتها الأخلاقية وفاعليتها التعبوية.

انحاز فيلسوف ألمانيا quot;هايدجرquot; الى النازية في بداية عهدها، فدفع غالياً ثمن موقفه فكرياً، وحدث الشيء نفسه لسارتر في انخداعه بـquot;جنةquot; ستالين. أما مثقفونا فيبدو أنهم استسهلوا قلب الصفحة السوداء السابقة.