علي الغفلي

تؤكد السهولة النسبية التي سقط من خلالها نظاما الحكم في كل من تونس ومصر نتيجة الثورات الشعبية في هذين البلدين أن قدرة أنظمة الاستبداد على البقاء تعتمد في واقع الأمر على مدى تسامح الشعوب مع المثالب التي تجسدها والمفاسد التي تقترفها هذه الفئة من الحكومات، وأنه عندما يتآكل هذا التسامح فإن الإرادة الشعبية العامة تتحرك بقوة من أجل إزالة النظام المستبد . ويتضح من خلال انتشار نوازع الثورات الشعبية ضد أنظمة الحكم في دول عربية أخرى تشمل حتى الآن الجزائر وليبيا واليمن أن روح التسامح الشعبي مع أنظمة الحكم السلطوية في الوطن العربي قد تقلصت بشكل سريع وعميق . ويصح الاعتقاد أن زلزال الاضطرابات السياسية الداخلية قد صار يتهدد كافة الأقاليم العربية، وكذلك جميع أشكال النظم السلطوية فيها، حين تنشط تظاهرات الاحتجاج والمطالبات الشعبية ضد حكومات هذه الدول .

لقد صارت جميع الشعوب العربية تدرك فداحة التسامح مع أنظمة الاستبداد التي استحكمت في المقدرات الوطنية في بلدان العالم العربي طيلة عقود عدة، وأضحت الشعوب في معظم الدول العربية تعي استحالة الاستمرار في تحمل التكاليف الوطنية والحياتية التي صارت تغتال الوطن والدولة من خلال ثنائية الاستبداد المتغلغل والفساد المتفشي، وهو الأمر الذي يجعل من دول المغرب العربي، وبلاد الشام، وغيرها ساحات مرشحة باستمرار، وبدرجات متفاوتة من القوة، لأن تشهد تفجر الإرادة الشعبية من أجل التصدي للاستبداد والفساد .

تتكرر مشاهد المواقف الحكومية المتخبطة والمثيرة للشفقة ذاتها إزاء كافة حالات تكاثف الاضطرابات الشعبية التي شهدتها الساحة العربية في الآونة الأخيرة: تحذيرات من الإخلال بالأمن العام، تتحول إلى تهديدات بالتصدي لكل من يهدد استقرار البلاد وسلامة الممتلكات، تنزلق الحكومة بعدها إلى تعبئة قوات الأمن من أجل السيطرة على أفراد الشعب الثائر في الساحات العامة، وسريعاً ما يتدهور تأزم الموقف الحكومي حين تشتبك القوات الأمنية مع جموع المتظاهرين، ويقع الضحايا بين قتلى وجرحى . تقوم المناشدات والتحذيرات والتبريرات التي تطلقها الحكومات في مثل هذه الظروف على مضامين أمنية بحتة، وهي لذلك تذهب أدراج الرياح، ذلك أنها تذكر الشعوب الغاضبة بمهزلة العقد الاجتماعي الجائر الذي ظلت أنظمة الاستبداد السياسي تستمد حياتها منه، والقائم على أساس بغيض، جوهره أن تذعن الشعوب للاستبداد مقابل أن تأمن على نفسها من انتقام النظام السياسي .

إن العقد الاجتماعي القائم على تنازل الشعب عن بعض من أهم مكونات كرامته الإنسانية، مثل الحرية والعدالة والطمأنينة الوطنية والمساواة، مقابل أن يحجم النظام السياسي عن انتهاك سلامة مواطني الدولة هو منبع كل شرور الاستبداد والفساد التي يمكن أن يرزح تحتها أي مجتمع سياسي، وتعجز أي اعتبارات أخرى يمكن أن يوفرها النظام السياسي لهؤلاء المواطنين، مثل تحقيق الرخاء الاقتصادي، أو تمكين ثقافة الاستهلاك المادي، أو إتاحة مقومات الرفاهية الحياتية، نقول تعجز كل هذه الاعتبارات عن تعويض الشعب عن الخسائر الإنسانية الجسيمة التي يكابدها جراء هذا العقد الاجتماعي المخزي، ويظل الشعب على الدوام مدركاً حجم الثمن الفادح الذي يدفعه، ومتطلعاً إلى تصحيح علاقته بالنظام السياسي .

لقد تحدى الشعب العربي الثائر في كل من تونس ومصر القبضة الحديدية التي سلطتها المؤسسات السياسية الشرسة، وفحوى ذلك التحدي يجب أن يكون واضحاً، وهي أن العقد الاجتماعي القائم على استبداد مؤسسات الحكومة وفساد أدائها مقابل أمن الشعب قد انتهى، وهو لم يكن شرعياً في يوم ما، ذلك أنه يمنح أفراد الشعب العربي الاختيار بين النجاة بحياتهم أو تحقيق إنسانيتهم، وهو بذلك يخيرهم بين الحصول على الهواء أو الماء وليس الاثنين معاً، وهو اختيار جائر، فالحرمان من الأول يفضي إلى الموت السريع، والحرمان من الثاني يؤدي إلى الهلاك البطيء، ولا يقبل أي شعب عربي كريم أن يستمر راضخاً للحرمان من أحدهما إلا تحت وطأة قهر النظام وجبروته .

عندما ترفع الشعوب العربية مطالباتها، بعضها من خلال النداء الهادئ وبعضها الآخر من خلال الغضب الهادر، بإزالة النظام السياسي أو إصلاحه، أو تغيير الدستور أو تعديله، أو رحيل زعيم الدولة أو إسقاط الحكومة، وتنادي بإنقاذ الدولة واستعادة الوطن، أو تتمسك بمنح الحريات، وتحقيق العدالة، وتؤكد نصيبها العادل من ثروة البلاد، وتطلق صرخاتها من أجل محاربة كافة صنوف الظلم والفساد، فإنها تعلن بصراحة مدوية لا يمكن تجاهلها أن العقد الاجتماعي الجديد الذي يربط بين الشعب والسلطة يجب أن يكون نافذاً، ويقوم تحديداً على منح الشعب الشرعية السياسية للحكومة مقابل ضمان الحكومة الكرامة الإنسانية للشعب .

عندما تتفجر الثورة الشعبية، فإن الهدف الذي تسعى الإرادة العامة إلى تحقيقه لا يقف عند حد معاتبة الحكومة أو استتابتها، بل يتعداه إلى دفعها إلى الشروع بإجراء الإصلاحات السياسية الملحة، وقد يكون الشعب قد حسم أمره بالفعل، وقرر أن يزيح الحكومة أو يسقط النظام السياسي بكامله بعد أن يكون قد استنتج أن أي شيء دون ذلك لن يكون كافياً من أجل النجاة بكل من الدولة والوطن والشعب من آثام الاستبداد والفساد .

لقد صار لزاماً أن يتم دحر الاستبداد والفساد في أقطار العالم العربي، وعلى الرغم من أن هذا الأمر قد قضي في كل من تونس ومصر من خلال الثورة الشعبية في البلدين، فإن نافذة الفرصة التي يمكن من خلالها أن تبادر الحكومات في الدول العربية الأخرى إلى معالجة الاستبداد والفساد بشكل استباقي ماتزال موجودة، ولكن هذه النافذة تضيق بسرعة مذهلة، وقد تغلق فرصة الإصلاح السياسي الاستباقي المتاحة أمام العديد من هذه الحكومات، وسيصبح من المحتم على هذه النظم حينها أن تواجه المصير الذي تلاقيه عادة أنظمة الحكم المستبد أمام إرادة الشعوب الثائرة .