سليمان تقي الدين

رغم الانقسام السياسي العميق بين معارضة وموالاة وغياب لغة وطنية مشتركة، تراجع منسوب التحشيد المذهبي في لبنان بانكفاء المزيد من الجمهور عن لعبة الصراع حول السلطة . ألقى المناخ العربي بثقله على الشارع اللبناني وأصبحت الأوضاع الاجتماعية ضاغطة كما حال الخوف من مسار لا ينتج إلاّ الفوضى .

حاولت القوى الحزبية أن تستنهض جمهورها لاستعادة الأجواء التي كانت منذ خمس سنوات فلم تفلح في أن تستحضر التظاهرات الكبرى حول شعارات مستهلكة وغير واقعية ومعاكسة للمزاج الشعبي .

أزمة تأليف الحكومة قد تطول ما يعني أن أحداً من الأطراف لا يمكن أن ينتصر وأن ينفرد بالحكم ولو أطلق المزيد من الشعارات عن التغيير والإصلاح ومعالجة هموم الناس . في لبنان لا تنفصل المشكلات السياسية عن الاستقرار وعن دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بل إن غياب الحكومة يترك فراغاً في الإدارة والمؤسسات تستثني القضاء والأمن . ففي نظام المحاصصة واقتسام الدولة تبقى المواقع الإدارية شاغرة حتى يتم التوافق حولها .

لم تنجح حتى الآن صيغة فصل الداخل اللبناني عن الضغوط الخارجية . لقد ارتكب الأطراف اللبنانيون خطيئة كبرى برهن حياتهم الوطنية لتأثيرات الخارج، وخصوصاً ما اسموه ldquo;المجتمع الدوليrdquo; . فهم لا يقدرون اليوم على معالجة ملفات داخلية إلاّ في ضوء اتجاهات ما يقرره مجلس الأمن والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان . وهم لا يملكون أن يشكلوا حكومة طالما أن خطوط الاتصال باردة بين دمشق والرياض .

في واقع الأمر أن الفريقين اللبنانيين رغم استقطابهما لعناصر قوة معروفة، أكانت سلاحاً أم مالاً أم عصبيات طائفية فهما لا يقدران على إحداث تغيير في موازين القوى إلاّ بحدود طفيفة عبر الصراع السياسي . يلعب الفرقاء لمصلحة الخارج لأنهم يعتقدون بأنه أحد أهم مصادر قوتهم . في لبنان القوى السياسية الفاعلة هي تلك المؤسسات الخدماتية التي تؤطر جمهورها بالمصالح اليومية لا بالبرامج السياسية . هي لا تعرف نظام المساءلة والمحاسبة لأن عناصرها ممسوكة بهذه الخدمات وليس بالشعارات التي تبدّلت كثيراً إلى حد التناقض . الفريقان في مأزق ولا يحاول أي منهما تسهيل مهمة رئيس الحكومة المكلف بالتنازل عن جزء من السلطة . في وضع كوضع لبنان لا مخرج من الأزمة إلاّ بحكومة وحدة وطنية باتت متعذرة أو بحكومة محايدة انتقالية تخفض حدة الصراع على السلطة .

إن التقاليد الدستورية المخالفة للدستور صارت ضاغطة على العمل السياسي، فليس هناك ما يلزم لكي تتمثل الكتل النيابية تمثيلاً نسبياً، وليس رئيس الحكومة مجرد منظم لهذا التوزيع على الحقائب والأسماء . لكن أحداً لا يعمل وفق الدستور بل وفق شهوة السلطة وموازين القوى السياسية على أرض الواقع .

ربما تحتاج البلاد إلى صدمة ايجابية قد لا يكون رئيس الحكومة المكلف من طبيعة تسمح له بذلك . هو يستطيع حتماً أن يضع الجميع أمام مسؤولياتهم بعد أن استنفدت تقريباً كل الخيارات . لا أفق في المدى القريب لانقلاب في موازين القوى الإقليمية ولا حتى تسويات أو تفاهمات حول الملفات الخلافية . ولا أفق أيضاً لإعادة انتاج تسوية لبنانية حول الملفات الكبرى السياسية كالسلاح والمحكمة .

إن فكرة تنحية هذه الملفات عن الحياة اليومية للمواطنين وحملها إلى هيئات حوار أو إلى خارج المؤسسات هي المخرج الوحيد من الشلل الحاصل ومن تغذية عناصر التوتر . لا تستطيع الدولة في لبنان أن تحتمل هذه الأعباء ولا هي مهيأة أصلاً لاحتواء هذه النزاعات . كل الأطراف يتصرفون على أساس إضعاف الدولة وليس تقويتها . الجميع يشتركون في تعزيز دويلاتهم الطائفية على حساب الدولة في هذا الوقت الضائع . ربما لهذا السبب خرج الشباب اللبناني الذي بدأ ينفك عن لعبة الانتظار وعن الطبقة السياسية مطالباً بتغيير جذري لقواعد اللعبة السياسية . لا يطالب الشباب اللبناني عملياً بتغيير الدستور بل بتطبيقه . ولا يطالب بإسقاط مطالب القوى السياسية المتحكمة في ملفي المحكمة والسلاح بل هو يريد مساراً آخر للأحداث يبدأ في اشتغال الدولة من دون الاقتسام الطائفي لها . كانت الطائفية وما تزال العقبة الأساس أمام تطور الدولة وأمام تطور المجتمع . كلما تنامى هذا الدور الذي يقوم به الشباب كلما شكلت أداة لخفض منسوب التوتر الطائفي حتى تتشكل قوة ثالثة تساعد على استعادة لبنان قضاياه إلى الداخل وليس ارتهانه إلى المصائر الخارجية . ربما يجب أن تنشط مساعي المجتمع المدني لبلورة مشروع سياسي وطني يصحح صورة الانقسام ويصحح المفاهيم السياسية أولاً حيال اللغط والتوظيف العشوائي .