عطاف الشمري

هل نحن أمة منقرضة؟ أو في طريقها إلى الانقراض؟ وهل ثقافتنا العربية آيلة إلى التلاشي والاضمحلال؟ أم العكس؟ وهل تستطيع هذه الثقافة مواجهة رياح الثقافات العاصفة حولنا؟ أسئلة، كثيراً ما يطلقها البعض، إما انطلاقاً من نوايا خبيثة بعد تخندقهم في مواقع أعداء الأمة وارتهانهم بأجندات خارجية مغرضة، أو يقذف بها آخرون أحياناً بدافع الغيرة والخشية على مستقبل هذه الأمة بنية حسنة، ليبدو أن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين سوء النية وحسنها، لكن أياً كانت هذه التساؤلات وأياً كان مطلقوها، إلا أنها تبقى أسئلة مشروعة في ظل ما تتعرض له أمتنا العربية من تحديات جسام، لا سيما في هذه المرحلة من تاريخها، فكما هو معروف تعرضت الأمة العربية على مدى عصور من الزمن لهجمات وتحديات استعمارية كبيرة، لأسباب كثيرة يكاد يكون أهمها ذلك الموقع الجغرافي المهم الذي تتربع فيه على خريطة العالم، وما تحتويه الأرض العربية من ثروات ومنابع للطاقة، تشكل العصب الرئيس للحياة في العالم أجمع، خاصة في عصرنا الحالي .

والخشية على ثقافتنا العربية، تبدو أمراً حيوياً في هذه المرحلة بالذات نظراً لجسامة التحديات التي تواجهنا كأمة وكهوية وثقافة، خاصة أن الثقافة تشكل في واقع الأمر أهم خصائص الأمم، بما تحويه من عناصر مثل اللغة والعادات والتقاليد، وغيرها من الخصائص التي تشكل في نهاية المطاف هوية الأمة .

فكلمة ثقافة مشتقة كما هو معلوم من كلمة ldquo;ثقفrdquo; بكسر القاف، وثقف الشيء تعني أقام المعوج منه وسواه، ولهذا فإن من الطبيعي أن نقول إن الثقافة هي عملية البناء الحقيقي للأمم، لأنها تعني الحضارة المبنية على الفهم والعمل .

واستعملت كلمة ثقافة في العصر الحديث للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات . والثقافة ليست مجموعة من الأفكار فحسب، ولكنها نظرية في السلوك بما يرسم طريق الحياة إجمالاً، وبما يتمّثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب، كما أن الثقافة تمثل روح الأمة وعنوان هويتها، فلكل أمة ثقافة تستمد منها عناصرها ومقوماتها وخصائصها، ولكل مجتمع ثقافته التي يتسم بها، ولكل ثقافة ميزاتها وخصائصها . لقد عرف التاريخ الإنساني الثقافة اليونانية، والثقافة الرومانية والثقافة الهلينية، والثقافة الهندية، والثقافة المصرية الفرعونية، والثقافة الفارسية . وهذه الثقافات كلها كانت على تماس ببعضها، وكانت على تماس مباشر أيضاً بالثقافة العربية، لكن حينما تبوأ العرب زمام القيادة الفكرية والثقافية والعلمية والحضارية للبشرية في القرن السابع للميلاد، واستمروا في مركزهم المتميز إلى القرن الخامس عشر منه، عرف العالم ثقافتنا العربية، فشكلت الثقافة العربية الإسلامية في ذلك الحين، الحصن والركيزة الأساسية في قوة الأمة ومنعتها، حتى إذا تراجع العرب والمسلمون عن مقدمة الركب الثقافي العالمي، ودبت الفرقة بين صفوفهم، وحل الضعف محل القوة في كيانهم، وتوقفوا عن الإبداع في ميادين الفكر والعلم والمعرفة الإنسانية، انحسر المد الثقافي العربي، وغلب عليه الجمود والتقليد، وضعف أمام تيارات الثقافة الغربية العاتية التي أثرت بقوة في كل مناحي حياتنا .

ولكن رغم هذه التيارات الغربية العاتية، ورغم تأثر الثقافة العربية بها، إلا أنه لا يمكننا أبداً تجاهل أن هذه الثقافة العربية، ظلت رغم كل ذلك الحاضن الأساس لشخصية الأمة، والموجه الأول لسلوكها، ما يدل على متانتها رغم كل ما أصابها على مدى التاريخ .

وإذا بحثنا عن مصادر الثقافة العربية ومقوماتها وخصائصها نرى أن هذه الثقافة تتسم بسمتين أساسيتين: سمة الثبات فيما يتعلق بالمصادر، من عقائد وتشريعات وقيم ومناهج، وسمة التغيير، في ما يتعلق باجتهادات المسلمين على اختلافها، الأمر الذي يجعل منها ديناً ومنهجاً للحياة . كما أنها ليست محدودة الجغرافيا وإنما تتسم بالعالمية، والشمولية، والوَسَطِية، والواقعية، والموضوعية، ومصادر الثقافة العربية الإسلامية هي القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما المعين الأساس للعلوم الإسلامية واللغة العربية، والمرجع الذي يهتدي به المسلم في بحثه عن الحقائق في مجالات المعرفة والوجود والقيم، وما يتعلّق بالفكر والواقع والنظر والسلوك .

ولأن الأمة العربية صارعت في الماضي الكثير من الإمبراطوريات الكبيرة، واتسعت جغرافياً نيجة الفتوحات الإسلامية، فقد أضحت مع الزمن ثقافة غنية، تلاقحت مع ثقافات الشعوب الأخرى فأثرت فيها وتأثرت بها، ما شكل خليطاً ثقافياً وحضارياً مميزاً لا نزال نشهد آثاره حتى يومنا هذا في الكثير من المناطق التي وصلها الدين الإسلامي الحنيف، ولذلك لا غرابة إن قلنا إن هذه الثقافة العربية العريقة، تستمد مصادرها من الفكر اليوناني، والقانون الروماني، واللغة اللاتينية، وغيرها، وإنها وَازَنَت بين جوانب العقل، وجوانب الوجدان، فكانت عربية في لغتها، إسلامية في جذورها، إنسانية في أهدافها، وهي شأن كل ثقافة، تتكوّن من مقومات أساسٍ: فكرية وروحية، أهمها العقيدة، وهي الإسلام، واللغة العربية وآدابها والتاريخ والتراث ووحدة العقلية والمزاج النفسي .

واللغة العربية مقومٌ أساسٌ من مقوّمات الثقافة العربية الإسلامية، ولذلك فإن العربية ليست لغة أداة فحسب، ولكنها لغة فكر أساساً، وحضارة واسعة الطيف بحدود في غاية الكونية والشمولية، إذ أنه حتى الشعوب والأمم التي انضوت تحت لواء الإسلام، وإن كانت احتفظت بلغاتها الوطنية، فإنها اتخذت من اللغة العربية وسيلة للارتقاء الثقافي والفكري، وأدخلت الحروف العربية إلى لغاتها فصارت تكتب بها .

لكنه في زمننا الحالي، وما أنتجته الحضارة من مخترعات، قصرت أو أزالت المسافات بين البشر، أضحى الحديث عن العولمة في لحظتنا المعاصرة موضوعاً مثيراً للجدل بما تعنيه الكلمة من معنى، وبات الحديث عن مدى قدرة الثقافة العربية على الصمود أمراً في غاية الأهمية، في ظل انفتاح ثقافات العالم على بعضها بعضاً في عالمنا الحالي الذي تسيطر عليه آليات العولمة التي يعدها البعض أداة لتخلي المنظومات الفكرية والسياسية والاجتماعية عن بعض مظاهر الأصالة التي قد تتسم بها للاندماج في بوتقة ثقافة نمطية يمليها الطرف الأقوى سياسياً وعسكرياً وحتى علمياً، كما يجري الآن من خلال تسويق الثقافة الغربية في العالم، والتي شهدنا فصولاً واضحة منها بعد سقوط الاتحاد السوفييتي .

هذا الواقع الجديد فرض عليها كأمة، كما فرض على الكثير من الأمم، أن تتساءل عن مدى قدرتها على الصمود وإثبات هويتها في ساحة العالم المتجدد، وبالتأكيد فإن أمتنا العربية تعد أولى من غيرها في هذا القلق، باعتبارها أمة حملت رسالة سماوية مهمة، وأرست حضوراً ثقافياً مميزاً عبر التاريخ، رغم كل ما حاق بها من مؤامرات خارجية وغزوات استعمارية .

وبربطنا الموضوع مع السياق الثقافي العربي نجد المفهوم يتراوح بين الرفض والقبول، أي أن هناك من يرون في العولمة انفتاحاً تحقق فيه الدول المندمجة، مكاسب وإنجازات تحت مظلة العالم الجديد، مقابل معارضين للاندماج وحجتهم في ذلك التمسك بالموروث الثقافي المحلي في إطار صون الهوية الوطنية بمختلف أبعادها .

ورغم أننا معنيون شئنا أم أبينا بظاهرة العولمة، فإنه لا مناص لنا من التفكير ملياً والبحث عن طريقة مناسبة للتعامل مع المستجدات العالمية، لكي لا نبقى على الهامش أو نعيش على وقع الإملاءات الخارجية في ظل غيابنا التام، مما يفرض علينا إيجاد سياسة واقعة للتعامل مع الوضع، على اعتبار أن اختراق ذاتنا الثقافية يعد أمراً مقلقاً وعلى امتداد الوطن العربي .

ومع أن هذا القلق له ما يبرره، إلا أن السؤال الأهم يبقى عن الخطوات والأعمال التي يتوجب علينا القيام بها للحفاظ على ذاتنا الثقافية وحضورنا كأمة لها خصائصها على الساحة الدولية، لا سيما أننا لو أمعنا النظر ولامسنا عن قرب مدى تأثير العولمة أو الثقافة السائدة في خصوصيتنا الثقافية بالعالم العربي، لوجدنا أن هذا التأثير بات يشكل خطراً حقيقياً على هويتنا كأمة، ففي أي قطر عربي يسهل علينا رصد التأثير بدءاً باللغة باعتبارها مقوماً من مقومات الثقافة، إلى أبسط الأشياء التي تدخل في تشكيل تفاصيل الحياة اليومية، حيث يلاحظ بوضوح مدى الاختراق الثقافي الذي نعانيه، فحينما نبدأ نهارنا على إيقاع تحية الصباح بلغة أجنبية غير لغتنا الأم كما يحلو للكثيرين منا أن يقوموا به، نكتشف أن في الأمر شيئاً غريباً، وحينما يرتمي بصرنا على اللوحات وواجهات المحال التجارية التي تتسابق في ما بينها لإدراج أسماء غربية، لا تمت إلى الثقافة العربية بصلة نتيقن أن في الأمر شيئاً يتطلب لحظة تأمل، أمام هذا الخليط العجيب الذي يتداخل فيه الأجنبي بالوطني، والحداثة بالأصالة، كما نرى كيف أن جسدنا العربي بات مخترقاً بفعل عوامل عدة، أبرزها مخلفات الحقبة الاستعمارية وما تركته على الوطن العربي من آثار، وهنا لا بد لنا من أن نتساءل عن العلاقة التي تربط الاستعمار بالثقافة العربية اليوم في خضم مواجهتها للعولمة والاختراق الثقافي .

والحقيقة أن موضوعاً كهذا من الصعب اختصاره بدراسة، أو مشروع متواضع للعمل، أو وصفة سحرية، تبرئنا مما نعانيه، وإنما يحتاج إلى جهود جبارة، وشاملة تبدأ من أساس الهرم حتى ذروته، ونقصد هنا التربية، حيث يناط بالأسرة دور لا يستهان به إلى جانب المؤسسات التعليمية، التي يجب أن تزرع في الأبناء ما حمله الآباء والأجداد من صفات وموروث ثقافي وأخلاقي، وتركز على عامل اللغة العربية بشكل أساسي باعتبارها حاضناً أميناً لثقافتنا العربية، وباعبتارها لغة القرآن الكريم، الكتاب السماوي الأشمل، كما يناط بهذه المؤسسات الدول الكبرى في إيجاد آليات عملية لمواجهة الاختراق الثقافي، ومعالجة آثاره .

وعلينا هنا أن نؤمن وبقدر كبير من القناعة بأن بناء الفرد العربي الحقيقي، المتمسك بعروبته وهويته، يمثل البداية الواقعية والعملية، في الحفاظ على الأمة العربية قوية في ساحة العالم المزدحم بالتيارات الفكرية والثقافية الكثيرة، لأن أمراً كهذا هو وحده الكفيل بالثبات أمام رياح العصر وما تحمله العولمة من أفكار وسياسات متنوعة في اتجاهاتها وأهدافها .

ويصح القول هنا إننا بتنا بحاجة إلى ترميم فعلي لثقافتنا العربية التي نعتز بها، خاصة أن الثقافة العربية الإسلامية تتصل بالجانب الأساس الذي ميز الله به الإنسان عن الحيوان، ألا وهو الضمير . إن الثقافة تتصل بالضمير، والضمير أعمق وأروع من العقل .

والضمير الإسلامي هو منبع الثقافة العربية الإسلامية . ولذلك فهي ثقافة الوجدان الإنساني .

والثقافة العربية، هي ثقافة الأمة العربية، التي هي أمة الإسلام الذي منه اكتسبت صبغتها، والدين الإسلامي هو الرسالة الخالدة للعرب .

ولأن الثقافة العربية إسلامية الروح سماوية الرسالة، فإنها مع ذلك ثقافة استوعبت كل الأمم والشعوب التي انضوت تحت لواء الأمة العربية الإسلامية .

ونلاحظ هنا وبوضوح كيف أن أعداء الأمة العربية يركزون في هجومهم على أمتنا وبشكل أساسي على الدين الإسلامي، محاولين ربطه بتيارات فكرية عقيمة، وتشويه هذا الفكر السامي والإنساني والعالمي أيضاً .

أخيراً وليس آخراً لا بد من القول إن بناء الإنسان العربي، ومن مراحل الطفولة على الأسس والقواعد العربية الأصيلة، وتربيته على أساس ما قدمته العروبة والإسلام من رسائل حضارية للعالم، مع التركيز على اللغة العربية التي هي لغة القرآن الكريم، يمثل حاجز الدفاع الأكبر والأهم في مواجهة الأخطار التي تواجهها أمتنا العربية أياً كان مصدرها وأياً كان نوعها .