رغيد الصلح

خلال الأسبوع الأول من شهر إبريل/ نيسان الحالي انعقد في بيروت مؤتمر مهم حول القضايا الإقليمية المستجدة . اكتسب المؤتمر أهميته من اعتبارات عديدة في مقدمها هوية الجهة المنظمة له إذ إنها الجيش اللبناني . وكان لهذه المبادرة الطعم الخاص، ليس لأنها المرة الأولى من نوعها بالنسبة إلى المؤسسة العسكرية اللبنانية، ولكن بسبب طبيعة العلاقة بين المؤسسات العسكرية وشريحة الانتليجنتسيا في دول العالم الثالث . فقد اتسمت هذه العلاقة في أحيان كثيرة بالحذر المتبادل . إن المؤسسات العسكرية والأمنية هي، بطبيعة الحال، حارس مؤتمن على الوضع الراهن، أما الانتليجنتسيا فهي بؤرة للأفكار الجديدة والتغييرية . ومن ثم كان من الطبيعي أن يسود شيء من الحذر بين الجانبين .

المبادرة التي اتخذها الجيش اللبناني تستحق هي في حد ذاتها التنويه، إذ بدت خروجاً صريحاً عن ذلك النمط من العلاقة بين المؤسسة العسكرية وشريحة الانتليجنتسيا . ظهر ذلك في أجندة المؤتمر إذ تضمنت قضايا ساخنة انطلاقاً من التركيز على الثورات والانتفاضات العربية ومقدماتها وتداعياتها . ثم إن المؤتمر انعقد وسط شفافية كاملة إذ رافق الإعلام كل جلسة من جلساته . واتسمت المناقشات بالحرية التامة، وفي خضمها لم يكن من المستطاع التمييز بين موقفين واحد عسكري وآخر مدني، بل اختلطت الأوراق بحيث باتت الآراء تعبر عن اجتهادات فردية فحسب، وعن قناعات مشاركين ومشاركات في مؤتمر ولجه العقل النقدي من دون تهيب ولا ارتباك .

من بين تلك القضايا كان موضوع التأثيرات المتبادلة بين الانتفاضات والتحولات الديمقراطية التي تطرق باب المنطقة، من جهة، وبين الأقليات وبصورة خاصة الأقليات الإثنية فيها، من جهة أخرى . وهذا التركيز على الأقليات الإثنية يستحق التنويه أيضاً . ذلك أنه عندما نتحدث عن الأقليات في المنطقة العربية وفي الشرق الأوسط، فإن الأذهان تنشد بصورة تلقائية إلى الأقليات الدينية وإلى العلاقة بين الأديان . أما موضوع الأقليات الإثنية فقد جرت العادة على اعتباره ملحقاً بموضوع الأقليات الدينية وتابعاً لها . وهكذا تتعرض مسألة الأقليات الإثنية إلى التهميش مع أنها لاتقل أهمية عن مسألة الأقليات الدينية بل لعلها أهم منها . فمن المؤكد أنها تستحق أبحاثاً مستقلة عن هذه الأقليات الأخيرة، وهي تتطلب مقاربات خاصة ومركزة بدءاً من تعريف الإثنيات وما يميزها عن العصبيات الدينية .

وعلى كثرة المحاولات لتعريف الإثنية وضبط حدودها وشروطها وأهدافها فإنها بدت عصية على التعريف حتى لشخص في مكانة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر الذي اعتبر أنها ldquo;تفتقر إلى الدقة المفاهيميةrdquo; . بيد أن هذا النقد لم يحل دون استمرار محاولات بذلها علماء سياسة واجتماع للتعرف إلى هذه الظاهرة ولتعريفها . فالاضطلاع بهذه المهمة لم يعد ترفاً علمياً فحسب، ولم يعد إرضاء لفضول معرفي بحت، وإنما إلى حاجة ملحة بسبب تحول الإثنيات إلى لاعب متعاظم الأهمية على مسرح السياسة العالمية . ولاحظ معنيون بمسألة الكيانات والمجتمعات الدولية أن لهذا اللاعب وجه يانوس فهو قد يدخل على السياسة الدولية دخول المخلصين، ولكنه قد يقتحمها بطاقات تدميرية مرعبة . ولقد كان على الذين يتطلعون إلى تغليب الوجه الأول للإثنية على الوجه الثاني، أن يسعوا ابتداء إلى تعريفها، ذلك أن المرء ليس عدو ما يجهله فحسب، بل إنه قد يتحول إلى ضحية ما يجهله أيضاً .

لعل أهم ما يميز الإثنية هو صلتها الحميمة بالثقافة، بحيث يعرفها بروفسور أدريان هيستنغز، أستاذ العلوم الدينية في جامعة ليدز البريطانية، بأنها الثقافة العامة التي تمتلكها مجموعة من الناس تجمعهم نظرات مشتركة إلى أساسيات العيش . وفي طليعة هذه الأساسيات تأتي اللغة ومن بعدها قضايا ومشاغل أخرى مثل حماية النفس والحفاظ على الممتلكات والزواج والطلاق وتنمية الفنون والتعامل مع الأساطير . ويضيف هيستنغز إلى ذلك كله معْلماً آخر مهماً يميز الجماعات الإثنية عن غيرها عندما يصفها بأنها ldquo;الجماعة التي ينتقي/ تنتقي فيها الفرد زوجته/ زوجهاrdquo;!

ولكن بين هذه الأساسيات تبقى اللغة والكلمة المحكية هي العامل الأكثر أهمية في تحديد الإثنيات . ولا ينسى هيستنغز في كتابه ldquo;بناء القوميةrdquo; العلاقة الحميمة بين الإثنية والقومية، ولكن فيما يميل البعض إلى الخلط بينهما أحياناً أي استخدام المصطلحين وكأنهما يعنيان شيئاً واحداً، فإن هيستنغز يفرق بين الاثنين عندما يقول إن جذور القوميات، ترجع، في أكثر الأحيان، إلى أصول إثنية . فكيف يتم التحول من الإثني إلى القومي؟

إن الجماعات الإثنية تحافظ على طابعها الإثني إذا ما بقيت ثقافية الطابع . عندها فإنه من المألوف أن تطالب الجماعة المعنية بحقوقها الثقافية، مثل الحق في استخدام لغتها وتأسيس دور العلم والبحث الخاصة بها . وتصل هذه المطالبات والمبادرات التي تؤكد احترام خصوصية الأقلية الثقافية إلى حد المطالبة بالاستقلال الذاتي في إطار الدولة القائمة . أما إذا تخطت الأقليات الثقافية هذه الحدود وتجاوزتها إلى مشروعات سياسية تتعلق بدورها في الحكم والسلطة، فإنها تتحول إلى حركات قومية الطابع .

ولكن رحلة التطور والتحول لا تنتهي عند هذا الحد . فقبل العبور إلى الفضاء القومي لا بد من توضيح دقيق للفرق بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي . هل تعتبر المطالبة بتطبيق مبادئ حقوق الإنسان كما فعل الأمريكيون الأفارقة خلال الستينات تجاوزاً للهوية الإثنية وسيراً على طريق التحول إلى حركة قومية؟ الأهم من ذلك، فإنه لا بد من تحديد لطبيعة الكيان الذي يضم الأقلية الثقافية المعنية، فهل هو دولة متعددة القوميات بحيث يكون من المستطاع تلبية مطالب هذه الأقلية في إطارها؟ هل يكون من المستطاع الاستجابة إلى مطالب الجماعات القومية كما فعل ستالين عندما اعتبر أن اليهود هم جماعة قومية فأعطاهم بيروبيجان لكي يقيموا فيها كياناً خاصاً بهم في إطار دولة الاتحاد السوفييتي السابق المتعددة القوميات؟ أم أن الجماعة الإثنية تنتمي إلى دولة أحادية القومية كما هي الدول القومية الأوروبية بحيث ترى هذه الجماعة أنه لا بد من الانفصال عنها وإقامة كيانها الخاص بها؟

هذه الأسئلة والمعضلات واجهت الحركات السياسية الإثنية والقومية معاً في المنطقة العربية خاصة في الدول التي توجد فيها أقليات إثنية . فكيف كانت الإجابات عنها؟ هذا ما سنتطرق إليه في مقالات مقبلة .