عبدالوهاب بدر خان

في النهاية لم يؤكد علي عبد الله صالح سوى ما كان أكده منذ اليوم الأول لبدء الانتفاضة الشعبية ضد نظامه، أي أنه لن يغادر منصبه إلا في نهاية ولايته، إذا سمحت له الجماهير. كل ما قاله أثناء الأزمة عن إمكان نقل الصلاحيات أو السلطات، وعن استعداده المبطن للتنحي، لم يكن سوى مناورات، هذا ما تأكد أكثر مع مناورته الأخيرة للتخلص من المبادرة الخليجية، ومع أنه كان مكشوفاً إلا أن الانسحاب القطري من المبادرة زاد في انكشافه.
ولكن لماذا ركز علي صالح انتقاداته على قطر؟ لا شك أن لديه مرارة من التغطية التي خصصتها قناة quot;الجزيرةquot; لتطورات الأزمة فضلاً عن إتاحتها المجال لأصوات المعارضة، لكن ما أثار غضب الرئيس اليمني كان التصريح الواضح لرئيس الوزراء وزير الخارجية الشيخ حمد بن جاسم، إذ قال إن مبادرة دول مجلس التعاون تنص على تنحي صالح، وهذا ما كانت تنص عليه فعلاً الورقة الأولى التي قصد وفد المجلس صنعاء لتسليمها إليه، إلا أن الحال quot;غير الطبيعيةquot; التي كان فيها لدى استقباله له جعل أعضاء الوفد يحجمون عن تسليم الورقة، التي ما لبثت أن عدّلت بناء على انتقاده العلني لما سماه quot;موقف قطرquot;.
منذ ذلك الوقت كثر اللغط حول وجود quot;ورقة 3 أبريلquot; و quot;ورقة 10 أبريلquot;، وكانت المعارضة تؤيد الأولى بلا تردد كونها تنص صراحة على quot;التنحيquot; في حين أسقطت الثانية هذا المصطلح لتهتم بـ quot;نقل صلاحياتquot; الرئيس إلى نائبه، ورغم المأخذ قررت المعارضة، والمقصود بها quot;أحزاب اللقاء المشتركquot;، أن توافق على المبادرة، وقبلها صالح بعدما كسب نحو أسبوعين بهذه المناورة، ثم بدأ الإعداد لتوقيع المبادرة لتبدأ أيضا المناورة التالية أولاً بمحاولة تعيين نائب رئيس آخر، ثم بطلب توقيع قادة دول الخليج، وإذا رُفض ذلك طلب توقيع الرئيس الإماراتي بصفته رئيس الدورة الحالية لمجلس التعاون، ولما وجد صالح أن هذا الطلب يمكن أن يلبى قال إنه سيوقع بصفته رئيس حزب المؤتمر الشعبي العام لا بصفته رئيساً للجمهورية، وهنا أيضا افتضحت المناورة، إذ إنه يريد استخدام اللبس والغموض طوال مراحل التنفيذ.
في كل الأحوال ردد صالح في كل خطبه أنه لن يقبل إلا quot;بحل دستوريquot; للأزمة، وهو ما يعني في نظره إسقاط مفهوم التنحي أو الاستقالة، متناسياً بل متجاهلاً طبيعة الأزمة التي يواجهها، فالأمر لا يتعلق بـquot;إشكال دستوريquot; وإنما بانتفاضة ما انفكت تطلب منه الرحيل، ثم إنه قدم على سبيل الاحتياط، تفسيراً خاصاً للمبادرة الخليجية مفاده أن التوقيع عليها يجب أن يترافق أو يستبق بفك الاعتصامات وإنهاء الاحتجاجات، بل زاد على ذلك ضرورة إنهاء quot;الحراك الجنوبيquot; و quot;التمرد الحوثيquot;، وكذلك ما يعتبره تمرداً عسكرياً قام به اللواء علي محسن الأحمر وعدد من الضباط، وهؤلاء لم يعلنوا انشقاقهم وإنما رفضوا الأوامر الصادرة إليهم للمشاركة في قمع التظاهرات.
رغم كل التعديلات التي أدخلت على المبادرة الخليجية إرضاء لعلي صالح، بقي هو على مواقفه الأساسية، حتى بعدما أعلن مجلس التعاون أن هذه المبادرة تمثل دوله جميعاً، وعندما أصر على مواصلة الهجوم على قطر قررت قطر الانسحاب من المبادرة آملة في تطمين علي صالح وإحراجه، وحضه على التوقيع وبالتالي تسهيل الشروع في تنفيذ الحل، وفي الأساس، كانت المبادرة واجهت صعوبات في إقناع المعارضة بقبول quot;ضماناتquot; عدم الملاحقة القانونية والقضائية للرئيس والقريبين منه، وهو حرص على توسيع دائرة المستفيدين من تلك الضمانات، ومع أن المعارضة وافقت بعد تردد على هذه الضمانات، إلا أن موقف الرئيس لم يتغير، بل على العكس من ذلك، أوفد رئيس حكومته المستقيلة علي مجور في جولة خليجية هدفها الرئيسي شرح مخاطر التغيير وإعطاء الرئيس فرصة جديدة كي يحاول إنهاء الاحتجاجات، مع إبداء الاستعداد للتجاوب مع البنود الأساسية للمبادرة بعد استتباب الهدوء.
لعل ما دفع علي صالح إلى بذل هذه المحاولة أنه لاحظ تعاملاً خليجياً وأمريكياً مختلفاً مع سوريا رغم أنها ذهبت إلى أقصى العنف المفرط ضد الانتفاضة الشعبية، أي أن الرئيس اليمني أراد أن يستوحي المنهج السوري، ولذلك زاد منسوب العنف في أكثر من منطقة ولجأ إلى أساليب منها نشر القناصة على سطوح الأبنية، لكن كان واضحاً أنه فقد إمكان الحسم بهذه الطريقة، فهو أمل يجر الشارع إلى منازلة عنيفة لابد أن تكون له الغلبة فيها، لكن الشارع فاجأه كما في مرات سابقة بتلقي الضربات والمضي في الاحتجاجات السلمية، وبعدما كان اعتقد أنه تمكن من quot;تليين الضغوط الخليجية والأمريكية، إذا بها تعود لتذكره بأن شروط حل الأزمة تتوقف على تنحيه، فقد ردت واشنطن على القمع المتجدد بالمطالبة بـquot;انتقال فوري وسلمي للسلطةquot;.
الأكيد أن عودة صالح إلى استخدام القوة كانت تنطوي الآن على احتمال أن يفقد quot;الضماناتquot; بعدم الملاحقة، فالمعارضة أعلنت عملياً تخليها عن المبادرة الخليجية، وعادت فوضت الرئيس أمام مصيره، ورغم أنه نجح في إخراج شارعه للأسبوع الخامس على التوالي، كي يثبت أن لديه شعبية، إلا أن الجميع يعرف كيفية وظروف تأمين الحشد كل جمعة للاستماع إلى الخطاب نفسه الذي يلقيه الرئيس لتأكيد صموده وتبرير عناده.
غير أن التحدي الحقيقي الذي لم يستطع علي صالح أن يحققه هو إعادة البلاد إلى ما كانت عليه قبل بدء الانتفاضة الشعبية، لكن الطريقة التي تدار بها المبادرة الخليجية لم تقلقه، وحتى الضغوط الأمريكية شعر بأنها تقف عند حد معين، ذاك أن الأطراف الخارجية جميعاً تأخذ في الاعتبار وجود معضلة أمنية لا تتمثل فقط بوجود تنظيم quot;القاعدةquot; في اليمن وإنما بالاحتمالات المشوشة لما يمكن أن يحصل مع غياب صالح واهتزاز المنظومة الأمنية التي يعمل من خلالها، خصوصاً أن أهم أهداف المعارضة إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية، يضاف إلى ذلك المرحلة الانتقالية تنذر ndash; في ضوء التجربة المصرية رغم قوة الجيش وتماسكه ndash; بمخاطر جدية من حدوث فوضى وتضارب مصالح بين صانعي القرار، والمشكلة أن هذه المخاطر هي نتاج سوء إدارة علي صالح للبلاد، وبالتالي فلا فائدة من مواصلة الاعتماد عليه لمعالجة الوضع.
من هنا الحاجة إلى قرار شجاع تتخذه الأطراف الخارجية بمواجهة المشكلة بدءاً برفع الغطاء عن صالح، لا بإرسال إشارات خاطئة إليه خصوصاً أن بقاءه في السلطة لم يعن سابقاً، ولم يعد يعني الآن، عنواناً للاستقرار في اليمن.