سعيد حارب

بعد نجاح الثورات العربية في أكثر من بلد ومقتل أسامة بن لادن قفز إلى الواجهة سؤال حول مشروع العنف الذي بدأ منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، فهل تراجع هذا المشروع أم ما زال يتقدم؟ لا يمكن الجزم بإحدى الإجابتين، لأن الواقع يشير إلى أن هذا المشروع ما زال يطل برأسه بين فترة وأخرى، وما تفجيرات المقهى في مدينة مراكش إلا دليل على أن ظاهرة العنف ما زالت مستمرة، لكن هذه الظاهرة أو المشروع لم يعد يمتلك الزخم والنشاط الذي كان عليه قبل سنوات.
إن المؤشرات تشير إلى تراجع واضح في هذا المشروع ولعل غياب بن لادن (يعجل) بتراجعه، بل يمكن القول إن هذا المشروع تراجع منذ سنوات، لا بسبب الضربات والملاحقات الأمنية فقط، بل لأسباب داخل بنية هذا المشروع الذي ولد في ظروف استثنائية تلاقت فيها عوامل عدة كان من أبرزها نجاح المجاهدين الأفغان -حينها- في إخراج الاتحاد السوفييتي من بلادهم، ثم سيطرة حركة طالبان على أفغانستان وتراجع مجموعات المجاهدين السابقين بسبب الصراع الداخلي وصعود قوة طالبان، كما كان للظروف الإقليمية كاحتلال القوات العراقية للكويت ثم وجود القوات الأجنبية في المنطقة، ثم ما تلا ذلك من احتلال أفغانستان والعراق، كل ذلك أسهم في تفعيل هذا العنف في المنطقة وخارجها، لكن أهم أسباب تراجع هذا المشروع هو عدم امتلاكه لرؤية واضحة غير اتخاذ العنف وسيلة لتحقيق الأهداف التي لم تكن -كما بدا- سوى إلحاق الضرر بالخصم، فلم يقدم هذا المشروع رؤية متكاملة لما يريد، فعلى المستوى السياسي لم يكن لهذا المشروع رؤية سياسية واضحة ومحددة، بل إن النموذج الذي قدمه وهو نظام طالبان كان نموذجا سيئا لما يمكن تقديمه لأي مشروع سياسي في أي مكان، فحركة طالبان كانت تعيش خارج التاريخ، وكانت تتعامل مع العالم كما لو أنها تعيش في جزيرة معزولة عن البشر، ولم تكن تعلم ما يدور خارج أسوار المدن الأفغانية، عدا عن التفاعل الدولي والعيش في بيئة سياسية متغيرة ومتصارعة.
وحتى لا يزعم أحد أنني أكتب هذا بعد تراجع مشروع العنف، فقد كتبت مثله عام 1998، في عدد من المقالات المنشورة عندما كانت حركة طالبان في السلطة وكانت لها سفارات في عدد من الدول، وذكرت يومها أن طالبان لا يمكن أن تقدم نموذجا (إسلامياً) يتوافق مع متطلبات العصر، ويحقق غايات الإسلام، ولذا فإن غياب الرؤية السياسية عن مشروع العنف جعل المتابعين له بل المؤيدين له لا يجدون ما يمكن أن يتعاملوا معه كرؤية سياسية تتعامل مع الواقع، أما الأمر الآخر الذي (سحب الماء من حول سمك) هذا المشروع فهو ما أدخل به المسلمين عامة من صراع مع الآخر، فقد قدم للعالم صورة (مشوهة) عما يتصورونه عن المسلمين، وقد أسهم الإعلام في نقل هذه الصورة التي (جنَت) على المسلمين في أوطانهم، ومهاجرهم وأثناء تنقلهم وأماكن عملهم أو دراستهم، مما جعل كل مسلم يشعر بالأثر السلبي لهذا المشروع، ويكفي ما يلاقيه المسلمون من حملة إعلامية تتهمهم بالعنف والإرهاب والتطرف، وما يلاقونه من معاملة سيئة في بعض البلدان، وما ذلك إلا نتيجة للصورة التي رسمها هذا المشروع في أذهان الآخرين عن عنف المسلمين، ولذا وجدنا رفضا لدى المسلمين عامة والعرب خاصة لهذا المشروع.
ومما ساعد على تراجع هذا المشروع هو غياب الرؤية الشرعية الواضحة لعمله، فمعظم العلماء والمختصين في الشأن الديني وقفوا موقف الرافض لهذا المشروع، وردوا على كثير من أطروحاته وأدبياته، ولم يكن ذلك وقفاً على من يطلقون عليهم (فقهاء السلطان) بل من علماء يحظون بالثقة والتقدير من المسلمين، ولم يبق مساند لهذا المشروع سوى (فقهائه) ومفتيه الذين ينطلقون من فهم ضيق للنصوص، كما كان للباحثين والمفكرين دور كذلك في معالجة ظاهرة العنف من خلال أبحاثهم ودراساتهم ونشرهم العلمي والثقافي، ولذا فإن القول بأن تراجع ظاهرة العنف يتوقف على المعالجة الأمنية وحدها قول يخالفه الواقع، لكن أبرز مستجدات العرب وهي الثورات الشعبية جاءت لتقدم نفسها بديلا عن مشروع العنف الذي كانت الأنظمة تستند عليه لتبرير قمعها للشعوب بدعوى مواجهة الإرهاب أو الحرب عليه، فجاءت الثورات الشعبية السلمية لتقرر مبدأ مهما وهو أنها بأساليبها السلمية المشروعة تستطيع أن تحقق أهدافها المشروعة أيضا، وأن ما عجز مشروع العنف عن تحقيقه في ثمانية عشر عاما استطاع الشعب المصري تحقيقه في ثمانية عشر يوما!!، بل إن هذه الثورات استطاعت أن تغير إلى حد كبير الصورة السلبية التي رسمها مشروع العنف عن العرب والمسلمين، بل تكسب مزيدا من التعاطف والاهتمام الدولي لقضاياهم، وتحقق أفعالا كثيرة على الأرض فقد أعادت الحضور العربي على المستوى الدولي، وأعادت للقضية الفلسطينية روحها التي كادت تئِدها الأنظمة السابقة تحت دعوى مواجهة الإرهاب، بل أسقطت الورقة التي كانت الأنظمة تلوح بها في وجه كل مطالب بالحرية والديمقراطية، كما أن هذه الثورات تجاوزت البعد الفئوي للمجتمع من خلال تقسيمه قبليا أو حزبيا أو عرقيا أو دينيا، وقدمت نموذجا للتلاحم الشعبي وهو ما لم يستطع مشروع العنف أن يقدمه أو يتعامل معه.
إن تراجع مشروع العنف قد بدت ملامحه لتحل محله إرادات الشعوب، وليس هناك مبرر أن يتم قمع حركات الشعوب المطالبة بحقها المشروع في الحرية والمشاركة والديمقراطية وسيادة القانون، فلم تعد الشعوب مؤمنة بمشروع العنف لكنها مؤمنة بمشروعها السلمي.