شمس الدين الكيلاني
يجري جدل واسع، في سورية، حول الموقف من احتمال (الحوار الوطني) بين المعارضة والسلطة كمدخل لمعالجة الأزمة السياسية الكبرى، التي افتتحتها الانتفاضة السورية، وباتت تهدد النظام وآليات اشتغاله. فعادت أسئلة الحوار تُطرح من جديد، ولاسيما بعد (مرسوم العفو) الرئاسي، وتشكيل لجنة للحوار، تزامن ذلك مع استشهاد حمزة الخطيب وما خلفه من أسى وغضب ، ومع مؤتمر المعارضة في أنطاليا، واقتحامات الرستن وتلبيسة. وتصريح بخيتان الذي قرن عرضه للحوار برفضه إلغاء المادة الثامنة من الدستور. غير أن مشهد الانتفاضة السورية وضحاياها من دماء ودموع وإرعاب، وهي تكلفة هزّت ضمير المجتمع السوري وحميته، جعل المعارضة السورية متهيبة أمام قبول هذا الخيار. فتوزعت مواقفها تبعاً لأجوبتها على ما إذا كان النظام في تركيبته البنيوية ،وحمولاته الاجتماعية قابلاً للإصلاح أم لا، أو فيما إذا كان بإمكانه أن يرعى مرحلة انتقال سورية إلى الديموقراطية !؟
هناك قوى من المعارضة وفي مقدمتها قادة الانتفاضة الميدانيين، ترى إلى جانب اعتقادها بأن السلطة لم تقترح برنامجاً جدياً للحوار، أن التركيبة الاستبدادية البنيوية للنظام، تمنعه من التحول (داخلياً) إلى نظام ديومقراطي تعدُّدي، والنظامان يقفان على طرفي نقيض. فالدولة بمؤسساتها كافة (الجيش الشرطة،السلطة القضائية والتشريعية، المؤسسات التربوية العمومية)، في نموذجها الديومقراطي، هي كيان مجرد، متعالية تمثل الإرادة والمصلحة العموميتين للجماعة بكل فئاتها ،مستقلة عن مجال الصراع السياسي والاجتماعي، بينما السلطة(الحكم) هي مجال للتنافس والصراع في سياق المجال السياسي الديومقراطي، تنتقل فيه هذه الفئة الاجتماعية أو تلك إلى الحكم (السلطة) بطريقة سلمية ديومقراطية، لتطبق برامجها الانتخابية في إطار الدستور ،مع احترام شديد لاستقلالية مؤسسات الدولة ووظائفها الثابتة.حيث لا يحق لها،بما هي سلطة، التطاول على مؤسسات الدولة أو تغيير وظائفها ناهيك عن تحويلها إلى أداة بيدها لتسخيرها لمصالحها الخاصة .
والحال، أن القوى التي استولت على السلطة باسم حزب البعث لم تكتف بالاستيلاء على الحكم (السلطة) فقط، بل عملت على تسخير مؤسسات الدولة (الجيش الشرطة،المؤسسة التشريعية وعلى رأسها القضاء،المؤسسات التربوية والعلمية والجامعية والثقافية) لمشاريعها الحزبية والفئوية وألحقتها بـ(سلطتها) .فبدلاً من أن تكون تلك المؤسسات الدولاتية لكل المواطنين، أصبحت مؤسسات ملحقة بالحزب الحاكم وأجهزته، وبدلاً من أن تكون حيادية (غير مُتحَزِّبة سوى للدستور) حيال الصراعات والمنافسات السياسية الاجتماعية، أصبحت تابعة للحزب ولأجهزته المخابراتية.
وعلى هذا، أصبح الجيش والشرطة عقائديين (بعثيين)، وأصبحت المؤسسة القضائية مُتَحَزِّبة للبعث: عضوية وسياسة ووظيفة، والحال نفسه ينطبق على المؤسسات الثقافية والتربوية (المدرسة والجامعة مجالات النشر الثقافي والتربوي، والإعلام المسموع والمرئي) فصار من الضروري أن يكون الضابط والقاضي والمعلم والموظف وأستاذ الجامعة ومدير الجريدة والمجلة والمؤسسة الثقافية بعثياً إن لم يكن مُخبراً. ولا تقتصر هيمنة السلطة على مؤسسات الدولة، بل طالت بهيمنتها المجتمع نفسه ،طالما أن الدستور في مادته الثامنة ينص على (قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع). فغدت الهيئات النقابية والحزبية مُلحقة بقيادة الحزب وبأجهزته(عمال فلاحين حرفيين، ومهنيين من أطباء ومهندسين وصيادلة، وهيئات المجتمع المدني ). وانخرط المجتمع برمته في منظمات تابعة للسلطة وحزبها لتلقينه حب القائد وحزبه: الطلائع (للصبية)، اتحاد شبيبة الثورة (لطلاب الثانوي)، واتحاد الطلبة (للجامعيين). فانخرط المجتمع برمته في مؤسسات سلطوية للضبط والمراقبة، ومن ثم التصق الفساد بالهيكلية التسلطية وارتكز عليها،وانفتحت إمكانيات اكتناز الثروة على من يرتقي في السلَّم السلطوي .
وعلى هذا، فإن الخطوة الأولى التي لابد منها لانتقال سورية من النمط التسلطي إلى النموذج الديومقراطي للدولة، عليها أن تبدأ بتحرير مؤسسات الدولة من طابعها الحزبي (البعثي)، ومن هيمنة( السلطة) وأجهزتها، لتصبح مؤسسات لكل السوريين،حامية للحق العمومي من تعديات السلطة السياسة التنفيذية ومن الفئات الحاكمة ، ومراقبة لشرعية سلوكها، بدلاً من أن تكون خادمة لها. بمعنى آخر،عليها إلغاء ما هو مُتَّبع حتى الآن من (تبعيث) القضاء والتعليم والجيش، والنقابة والمجتمع المدني والفضاء الاجتماعي برمته، وتحريرها من التبعية القسرية للحزب وأجهزته القمعية. فليست مسألة الانتقال إلى الديموقراطية مسألة قانونية أو حقوقية فحسب بل هي مسألة عملية أساساً، فإذا اكتفى المتحاورون في صياغة أفضل القوانين الديموقراطية، دون أن يعملوا على تفكيك الأجهزة القمعية، وأن ينزعوا(عملياً) علاقة التبعية القائمة بين الأجهزة الحزبية والقمعية للنظام وبين مؤسسات الدولة التي من المفترض أن تكون ملكاً لكل المواطنين، فسيصبح الإصلاح عندئذ نوعاً من العبث.
هذه الحجج (النظرية )تسوقها المعارضة المُتشككة ،في صدق نوايا السلطة ،و في إرادتها وقدرتها على تحويل النمط السلطوي إلى النموذج الديومقراطي،وتضيف إليها الشواهد (التجريبية )لممارسة السلطة المبثوثة أمام الأعين ،والتي باتت سلوكاً إلغائياً ثابتاً تجاه المجتمع ،ويُعزِّز وجهة نظرها المُتشككة تلك اندفاع وثبات الحركة الاحتجاجية التي ازدادت اتساعاً وعمقاً وثقة بالذات ،فتصل إلى نتيجة مفادها :أن التحول الديومقراطي مشروط بتفكيك البنية الاستبدادية برمتها ،وهو ما يصعب على السلطة القيام به.
من الجهة الأخرى ،فإن أغلبية المعارضة الديموقراطية (القديمة) كانت تميل ،قبل انطلاق الانتفاضة السورية، إلى الحوار مع السلطة ،كحال(التجمع الوطني الديومقراطي) ذي الأصول القومية واليسارية، وأصحاب الاتجاهات الليبرالية الذين برزوا في العقد الأخير من الزمن ، وشكلوا لهم ندوات وتجمعات مدينية في بداية عهد الأسد الابن وأُجهضت في حينها.ومن ثم أسست المعارضة (إعلان دمشق) اكتوبر 2005 ،وعقدت (المجلس الوطني) لـ(إعلان دمشق) في أواخر 2007، ضم أغلب القوى السياسية السورية ، ودعا السلطة إلى عقد (مؤتمر وطني) للحوار، يجمع كل أطياف المعارضة مع ممثلي النظام بحثاً عن مخرج لتحول سورية إلى الديموقراطية بطريقة سلمية، فجُوبهت هذه الدعوة بالاعتقالات حتى طالت أمينة المؤتمر السيدة فداء حوراني ،ابنة الزعيم الكبير أكرم حوراني،فآذن ذلك بإنغلاق أية نافذة للإصلاح ناهيك عن الحوار،وبات كل ما يُحيط السوريين يُذكرهم بحقبة الثمانينات من عسكرة المجتمع والمراقبة (الأمنية) للناس من المهد إلى اللحد .
وعلى هذا، يصبح من المتوقع أن تتجه بعض قوى المعارضة، لاسيما من أوساط (التجمُّع الوطني) وبعض الناشطين والمثقفين، إلى القبول بالحوار إذا توفرت البيئة المناسبة لنجاحه،وفي مقدمتها: الإفراج عن المعتقلين السياسيين، سحب الجيش والقوى الأمنية من المدن والشوارع،السماح للتظاهر السلمي ، وإلغاء المادة الثامنة من الدستور كمدخل لابد منه لنجاح حوار يفضي إلى صياغة خريطة طريق للانتقال من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعددي ديومقراطي. وحجتهم في ذلك أن هذا السبيل كفيل،إذا صدقت نوايا السلطة، بتحويل سلمي إلى الديموقراطية .و تراهن أوساطهم على دور موقع (الرئاسة) بهذا التغيير ،مُذكِّرين بتجربة غورباتشيف في الإطاحة بالبناء السلطوي الشمولي للدولة السوفياتية وفتح الطريق للتغيير الديموقراطي.
التعليقات