لماذا تنتفض الشعوب العربية؟

هاشم صالح
الشرق الأوسط
إن أول فضيلة للانتفاضات العربية هي أنها أجبرت الأنظمة البوليسية الشمولية على الانفتاح غصبا عنها. لقد أخافتها لأول مرة وجعلتها تتنازل عن غطرستها وتسلطها ولو قليلا. لقد أجبرتها على أن تعرف معنى التفاوض والحوار لأول مرة في تاريخها حتى ولو كان الحوار مع نفسها على الأقل!
هل سمعتم بأب أسرة عربي أو شيخ عشيرة يحاور العيال والأطفال؟ عيب. لا يجوز. هذا تخفيض من سمعته وهيبته. فما بالك بالرئيس أو بالقائد أو بالزعيم؟! أنا شخصيا لا أتجرأ على محاورة أي شخص في العالم العربي حاليا مخافة أن يشتمني أو يغتالني بكل بساطة! ولذلك أصبحت أتحاور مع نفسي فقط. ولكن حتى مع نفسي فقد أنقسم إلى شخصين أو ثلاثة يدينون بعضهم بعضا ويبتدئ الصراع والعراك إلى حد الإنهاك. باختصار: ثقافة الحوار الديمقراطي غير موجودة في تاريخنا.
هذه حقيقة. وبالتالي فأحدث نظرية فلسفية لهابرماس عن الحوار التفاعلي التواصلي الديمقراطي الحضاري لا تنطبق علينا. وأصلا هو بلورها من خلال تجربة الشعوب المتقدمة ولأجلها. فالعقلاء المستنيرون هم وحدهم الذين يستطيعون التحاور بهدوء. أما الآخرون فيشتبكون بالأيادي وlaquo;يفعسونraquo; بعضهم بعضا حتى تحت قبة البرلمان! انظروا أوكرانيا من جملة أمثلة أخرى. وبالتالي فلا يكفي أن نردد كلمة ديمقراطية بسبب ومن دون سبب، بمناسبة ومن دون مناسبة، لكي نصبح ديمقراطيين! وإنما ينبغي أن نعرف كيف نمارسها: أي كيف أتحمل اختلافك معي دون أن أقوم عن مقعدي وأكسر الكرسي على رأسك!.. ولكن أولى خطوات الديمقراطية تبدأ من هنا.
إنها صيرورة طويلة ولا يمكن تعلمها دفعة واحدة. فلنبتدئ من نقطة الصفر إذن. عندما ذهبت إلى فرنسا لأول مرة فوجئت بمدى اختلاف العقليات؛ فالأستاذ كان يستشيرنا واحدا واحدا قبل أن يتخذ قراره حتى بخصوص مسائل بسيطة. كنت أقول بيني وبين نفسي: لماذا يضيع وقته في كل ذلك؟ من نحن حتى يستشيرنا؟ لماذا لا يفرض رأيه بسرعة وينتهي الأمر. والسبب هو أنه لا وجود للثقافة الديمقراطية في حياتي. وحتى الآن لا أعرف ما هو معنى كلمة ديمقراطية. فمن كثرة ما تعودت على الاستبداد والاستعباد وlaquo;الفعسraquo; أصبحت عاجزا عن الفهم. بل وأصبحت أنكر طعم الحرية وأستعذب الخنوع والمازوشية.
ينبغي العلم بأن الأنظمة الستالينية لا تحاور شعوبها وإنما تقودها لأنها تمتلك الحقيقة المطلقة بكل بساطة. وغني عن القول إن بعض أنظمتنا مركبة على طريقة أوروبا الشرقية إبان المرحلة الستالينية: الحزب الواحد، والجريدة الواحدة، واتحاد الشبيبة، والطلبة، والنساء، وحتى اتحاد الكتاب والأدباء، كل ذلك مدجن ومؤطر ومرفق باللغة الخشبية الامتثالية المعروفة. إنها تكرر نفس الكلام الممل الممجوج على مدار الساعة كالببغاوات.. وهذه الأنظمة كنستها رياح الحرية بعد سقوط جدار برلين عام 1989. وبالتالي فإن انتفاضة شعوبنا على نفس النوعية من الأنظمة تأخرت في الواقع عشرين سنة عن بقية العالم. والسبب واضح: إسرائيل على الأبواب. وبالتالي فالتعبئة العامة من أجل فلسطين لها الأولوية. ولكن المشكلة هي أننا لم نحرر فلسطين ولم نحرر أنفسنا فخسرنا على كلتا الجبهتين، وأكاد أقول خسرنا الدنيا والآخرة في آن معا.. من هنا النقمة العارمة للشعوب العربية. وهي نقمة كانت مكبوتة منذ زمن طويل فانفجرت كالزلزال أو كالبركان وقذفت بالحمم والشظايا في وجه التدجيل والاستبداد والفساد.
أضيف إلى ذلك أن الشبيبة العربية بشهادات عليا، أو من دون شهادات، مدانة بالبطالة والعطالة وانسداد الآفاق والضجر القاتل. وهنا تكمن أكبر جريمة إنسانية بحق شعوبنا الطيبة والبريئة. والأنظمة السائدة تتحمل مسؤولية ذلك. نقول ذلك وبخاصة أن نسبة الشباب الذين يقل عمرهم عن خمس وعشرين سنة تبلغ 60 في المائة على الأقل: أي معظم شعوبنا من الشباب على عكس شعوب أوروبا الحضارية المليئة بالشيوخ والعجائز.. وبعض الحكام ليسوا فقط طغاة أثرياء هم وعائلاتهم وحاشيتهم وإنما هم غير أكفاء وغير قادرين على ممارسة الحكم الرشيد. ولكم أن تتخيلوا حجم الأضرار الناتجة عن كل ذلك. إن تراكم هذه العوامل المتعددة وسواها هو الذي أدى إلى انفجار الشعوب العربية. وبالتالي فإذا ما عرف السبب بطل العجب.
لقد قيل الكثير عن تقاعس المثقفين العرب أو عدم مشاركتهم في هذه الانتفاضات أو عدم إرهاصهم بها. يقال إن جان جاك روسو تنبأ بالثورة الفرنسية قبل حصولها بربع قرن على الأقل. بل وتنبأ بها بعبارات دقيقة أذهلت المعاصرين. ولكن ليس كل الناس جان جاك روسو! كيف رآها؟ كيف استبق الحدث قبل حصوله؟ كيف رأى ما لا يرى؟ إنه بكل بساطة يمتلك laquo;رادارا داخلياraquo; على عكسنا نحن الناس العاديين أو السطحيين. وهذا الرادار الذي لا يمتلكه إلا الأنبياء والمفكرون الكبار قادر على كشف المحجوب وسبر التفاعلات العميقة التي تعتمل تحت السطح في قلب المجتمع والأشياء. ولكن من الظلم إدانة المثقفين العرب ككل. فبعض المثقفين مهدوا الأرضية للحدث الزلزالي بكتاباتهم التي تدين التخلف والاستبداد والظلام. وهي أفكار منتشرة أكثر مما نتصور في أوساط الشبيبة المنتفضة من أجل الحرية والحقيقة والعدالة الاجتماعية. هذا من جهة. وأما من جهة أخرى فلا ينبغي أن ننسى عدد المثقفين والصحافيين الذين سجنوا أو عذبوا أو قتلوا في العديد من الدول العربية والإسلامية.
وبالتالي، فالقول بأن المثقفين لم يلعبوا أي دور في هذه الانتفاضات خاطئ وظالم. المثقفون، بالمعنى القوي للكلمة، هم منارات الشعوب وضميرها الحي. ولكن يبقى صحيحا القول بأن هناك مثقفين ارتبطوا بالأنظمة وتواطأوا معها واستفادوا منها بل واغتنوا إلى درجة أنهم يمتلكون البيوت والشقق حتى في أرقى العواصم الغربية. وبالتالي فهناك مثقفون ومثقفون..
بقي أن أقول كلمة أخيرة: هذه الانتفاضات ليست نهاية كل شيء على عكس ما نتوهم وإنما بدايته. إنها تمهد للانتفاضة التنويرية الكبرى التي ستحصل لاحقا في أرض العرب والإسلام. عندئذ، وعندئذ فقط، يمكن القول بأن العرب دخلوا العصر الجديد الآخر.
نهايات الربيع العربي!
صالح القلاب
الجريدة الكويتية
لا أحد قادراً على التنبؤ بما ستستقر عليه الأمور في هذه المنطقة, سواء بعد شهر أو بعد عام أو بعد عشرة أعوام, ولعل ما يجعل عملية استقراء المستقبل مستبعدة أو مؤجلة أو غير ممكنة أن الكل منشغل, حتى بما في ذلك الدول الغربية التي لها مصالح استراتيجية في الشرق الأوسط, بملاحقة الأحداث والتطورات اليومية التي غدا بعضها، كما في سورية، يتخذ طابعاً خطيراً في حال بقيت الأمور تسير في هذا المسار الصعب الذي تسير فيه.
عندما انطلقت شرارة ما يسمى laquo;الربيع العربيraquo; من تونس، وسقط أو أُسقط زين العابدين بن علي، ثم انتقلت إلى مصر وسقط أو أُسقط حسني مبارك، ساد اعتقاد بأن أحجار laquo;الدومينوraquo; في هذه المنطقة ستتلاحق تباعاً، وأن كل شيء سينتهي خلال بضعة أشهر، وأنه وداعاً لبقايا أنظمة الانقلابات العسكرية وما تبقى من أنماط حكم كيم إيل جونغ وكوريا الشمالية.
لكن كل هذه الحسابات والتقديرات التي ترافقت مع بدايات هذه الانفجارات الكبرى ما لبثت أن ارتطمت بمستجدات كثيرة، حيث تعثر في مصر الانتقال من حالة ما قبل الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني) إلى الحالة المنشودة الجديدة، ودخلت ليبيا في نفق مظلم قد ينتهي بأن تصبح laquo;الجماهيريةraquo; دولة في الشرق عاصمتها بني غازي، ودولة في الغرب عاصمتها طرابلس، وأصبحت اليمن في هذه الوضعية التي تراوح مكانها، وأصبحت سورية أمام استحقاق مرعب هو الحرب الأهلية, لا سمح الله, إن بقيت الأحداث تتخذ هذا المنحى الصعب والشديد الخطورة.
كان الاعتقاد أن هذه laquo;الفوضى الخلاقةraquo;! ستنتهي بسرعة، وأن الأمور في كل الدول، التي غشيها هذا laquo;التسوناميraquo; المدمر، ستستقر خلال شهور قليلة، لكن ثبت وبسرعة أن حسابات الحقل غير حسابات البيدر، وأن اندمال جروح بكل هذا الاتساع يحتاج ربما إلى عشرات الأعوام، فالزلزال الذي أحدثته الثورة الفرنسية في فرنسا وأوروبا كلها لم يهدأ ولم يستقر إلا بعد أكثر من مئتي عام استجدت خلالها حالات عابرة كثيرة، وجرت أثناءها حروب أهلية داخلية وإقليمية لاتزال تترك بصماتها على كل القارة الأوروبية.
إن هذه ليست دعوة إلى الانتظار لعشرات الأعوام ليعطي هذا laquo;الربيع العربيraquo;, الذي قد يتحول إلى خريف أجْرَد شديد العواصف والأنواء, النتائج المرجوة منه بل هي تلمس لحقيقة يجب ألا تغيب عن البال، وهي أن الأحلام الوردية التي راودتنا كلنا مع بدايات هذا الذي حصل بدأت تتحول إلى كوابيس مقلقة، أقلها أن تصبح هذه الفوضى الخلاقة مدمرة، إن لم يكن في كل الدول العربية المعنية ففي بعضها.
والمشكلة هنا أن المنطقة العربية تدفع الآن ثمن انهيار معادلة مرحلة الحرب الباردة التي انتهت في بدايات تسعينيات القرن الماضي مع نهاية الاتحاد السوفياتي، وانهيار دول المنظومة الاشتراكية, باستثناء الصين وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا في الغرب, وثمن تَشكُل المعادلة الجديدة التي بدأت بالتحاق أوروبا الشرقية بأوروبا الغربية، ليكون هذا الاتحاد الأوروبي الحالي، ولتتسع رقعة حلف شمال الأطلسي بضم دول غدت بمنزلة laquo;دملةraquo; تحت إبط الإمبراطورية الروسية الجديدة.