رياض نعسان أغا

لم تشهد سوريا في تاريخها ما تشهده اليوم من حالة مفجعة ينزف فيها الدم السوري بأيدي سوريين، وقد أصبحت ساحة مفتوحة لكل الاحتمالات التي تثير المخاوف من مستقبل مبهم ومجهول تحول إلى كابوس يسيطر على وعي المواطنين مع تصاعد العنف ومع التوقعات المريعة التي تؤرق المنطقة العربية كلها، وقد أخفقت دعوات الحوار الوطني في إيجاد بيئة مناسبة تتم فيها استعادة الثقة التي لا يمكن بدونها إيجاد مخرج آمن من دوامة العنف، وبقي صوت الرصاص أقوى من صوت التعقل والتروي، وقد اختلطت مكونات المشهد، وبات صعباً أن يزعم أحد أنه قادر على ضبط إيقاع الشارع المنتفض وهو يزداد هيجاناً مع اتساع رقعة الدم المراق، ومع مشاهد الجنازات اليومية لقوافل الشهداء. وهم جميعاً مواطنون سوريون (مدنيون وعسكريون) فجلّ شباب سوريا إن لم نقل كلهم مجندون في الجيش السوري، إنه جيشنا الذي تخرجت منه أجيال الشباب والشيوخ، وكم هو مفجع ومرعب أن يجد الجندي نفسه يحاصر مدينته أو قريته ويصوب بندقيته نحو أخيه أو قريبه أو جاره، أو أن يحمل الأخ والقريب سلاحاً ضد شقيقه أو قريبه المجند في الجيش. وفجائعية المشهد هي كون الدم الذي يراق هو دم الأهل على الضفتين مما يجعله مشهداً تراجيديّاً مروعاً، ولكنه أقرب إلى أن يكون عبثيّاً ينتمي إلى اللامعقول.

وبعيداً عن الجدل في الأسباب التي أوصلت البلد إلى هذا الوضع المأساوي لكونها إشكالية ستؤرق المستقبل، ينبغي أن نطرح السؤال الأهم وهو كيف يمكن إيقاف نزيف الدم؟ وكيف يمكن أن يتوقف الانهيار الاجتماعي الذي يهدد الوحدة الوطنية ويمزق الجسد السوري؟ وكيف يمكن تجنب التدخلات الأجنبية التي نرفضها جميعاً مع أن ما يحوم حول سوريا يجعلها احتمالات متوقعة؟ وأحسب أن أخطر ما في الأزمة اليوم، هو النفق المظلم الذي لا يبدو في آخره ضوء إلى الآن، فلا أحد يعرف إلى أين ستمضي الأحداث. ويبدو من الوهم الاعتقاد بأن الحل العسكري قادر على أن يفرض الهدوء والاستقرار بالقوة وأن يستعيد ما كان عليه الحال قبل اندلاع اللهيب الذي يمتد على ساحة الوطن كله. وكذلك يصعب القول إن هذا اللهيب قادر على أن يحقق مبتغاه دون أن يحترق كل شيء. ولا أحد يريد التغيير عبر التدمير، وهنا تقع إشكالية ما يحدث في سوريا، فتوقف الحوار بالكلمات يجعل البديل حواراً بالرشاشات والدبابات التي لا تستطيع أن تفرق بين عصابة مسلحة تلاحقها السلطات، وبين متظاهر مسالم تعترف السلطة منذ البداية بحقه العادل في مطالبه وبحاجته إلى الحرية والكرامة، وإن كان يخالف قانون التظاهر فيخرج دون إذن مسبق فإن عقوبته ليست القتل المحتمل برصاصة طائشة أم عامدة على كل حال. وفي ساحة الاضطراب تصير اليد الممسكة بالزناد سيدة الموقف، يقودها الانفعال والهياج حيث لا فرصة للتعقل على الغالب، حتى إنها تقتل طفلاً أو امرأة مسنة وتقصف مئذنة بطريقة تستفز مشاعر مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم، ولا أدري أي هدف تحقق على صعيد إعلامي أو سياسي!

ولئن كانت الحالة السورية قد تعرضت منذ البداية لخطأ في التشخيص جر خطأ في العلاج، فإن استمرار المعالجة عبر قانون الفعل ورد الفعل سيجعل القرارات أقرب إلى الخطأ منها إلى الصواب. ومن أخطر الاحتمالات التي يخشاها السوريون ما أوحت به دعوات الطائفية البغيضة التي تمكن الشعب بوعيه الحضاري التاريخي من وأدها سريعاً، عبر شعاراته المدوية quot;الشعب السوري واحدquot; وكان خطر هذه الدعوات أنها تحولت من حملات تحريض إلى افتراض حلول، وقد كان مفجعاً أن تعرض إحدى القنوات الفضائية خريطة تبدو فيها سوريا مقطعة الأوصال مزقاً في دول طوائف وأعراق، حيث بدأ بعض المحللين يفترضون حلولاً عبثية في التقسيم، متجاهلين أن السوريين رفضوه حين كانوا تحت الانتداب الفرنسي، ولم يكن المجتمع السوري يومها قد حقق ما هو فيه من التواصل والتفاهم الحميم الذي نعيشه اليوم متجاوزين الانتماءات الضيقة دينية كانت أم مذهبية أم عرقية أم طائفية، فكيف يمكن أن يتخيل أحد أن يقبل الأبناء بما رفضه الأجداد؟ وإذا كان السوريون قد وقفوا للدفاع عن وحدة لبنان ومنعوا أفكار التقسيم فيه أواسط السبعينيات فمن البدهي أن يجدوا أي حديث يتخيل التقسيم أو يفترضه مؤامرة خطيرة تريد الاصطياد في ماء عكر وتريد أخذ البلاد إلى حرب أهلية تدمر الوطن كله.

ومن الاحتمالات المرعبة ما قد يفاجئ الجميع من تدخل أجنبي عسكري، مع كل الإصرار الشعبي على رفض التدخل، لكن هذا الخارج المتربص على الغالب، قد لا يعدم من يدعوه إلى التدخل ومن يبرر له ذلك، ولن تكون أهدافه عملاً خيريّاً لإنقاذ المدنيين، وتجربة التدخل في ليبيا دليل راهن.

ومن المخاوف التي تربك المستقبل، ما قد ينجم عن الاضطراب العام من غياب للأمن، ومن صعود لتيارات متطرفة من مختلف الاتجاهات تجد الساحة قابلة للفوضى، ولتجنب هذه المخاطر لابد من مزيد من التمسك بالوحدة الوطنية، وعدم الانجرار إلى الصراعات والعصبيات التي تشحنها الكراهية والبغضاء، والتي يوقظ بعضها التاريخ كي يكون بديلاً عن الحاضر والمستقبل.

إن ما تواجهه سوريا اليوم هو مفترق تاريخي خطير، ولحظاته الحاسمة تستدعي تقديم المصلحة العليا على المصالح الفئوية أو الحزبية الصغيرة، ولا أحد ينتظر حلاً أو مخرجاً يقترحه لنا الخارج، فما تزال الفرصة قائمة لمبادرات إنقاذ داخلية، تنتقل بسوريا إلى مرحلة جديدة عبر مؤتمر وطني تأسيسي، لا إقصاء فيه ولا استبعاد، ولا تشويش عليه بعنف أو اعتقال. ولئن كنت تمنيت في مقالات سابقة أن يسارع الحزب الحاكم (وهو الحاضر الغائب) إلى عقد مؤتمر وطني يتخذ فيه قرارات تاريخية، فلأنني أجد الحزب الذي حل نفسه ذات يوم من أجل الوحدة مع مصر، جديراً بأن يتخذ موقفاً يتنازل فيه عن احتكار السلطة من أجل مستقبل سوريا، وأن يعيد تشكيل قيادة قادرة على مواجهة المسؤولية بجرأة تبدع حلاً سياسيّاً. وقد قلت سابقاً إن مفتاح الحل يكمن في تعديل الدستور، ولم تغلق القيادة ذاتها أفق هذا الحل بين طروحاتها السياسية، ولكنها إلى الآن تبدو مترددة في اتخاذ القرار الجريء على رغم أن ما أعلنه نائب رئيس الجمهورية في خطاب افتتاح اللقاء التشاوري كان شفافاً وواضحاً في الدعوة إلى إقامة دولة تعددية ديمقراطية يحظى فيها جميع المواطنين بالمساواة ويشاركون في صياغة مستقبل بلدهم. وبالطبع لا يمكن أن يتحقق انعقاد هذا الحوار، إلا حين يتوقف لهيب النار، وإعصار القتل والدمار.