يوسف الديني


الخيط السيسيولوجي الذي يجمع بين الثورات المنجزة منها، كتونس ومصر وإلى حد ما ليبيا، أو تلك التي ما زالت برسم الإيقاف، كاليمن، أو حتى التي تجاوزت مفهوم الثورة إلى مفهوم التحرر من الإبادة الجماعية كالحالة الدموية التي تشهدها سوريا، هو أنها ثورات ضد الأقليات، ليس بمفهومها الإثني أو الطائفي، وإنما الأقليات المستأثرة بشكل عام، أقلية السلطة القامعة، كما في تونس، وأقلية الحزب الواحد في مصر وتونس، وأقلية الفرد / العائلة، كما في الحالة الليبية، إلا أن مفهوم الأقلية، وإن كان أوضح في الحالة السورية فإن عوامل كثيرة ومعقدة تبدأ من شكل ومفهوم السلطة في سوريا وتتصل بعلاقة المدن بالريف وانعدام الخط الفاصل بينهما، إضافة إلى قدرة النظام المذهلة على مدى تاريخها الطويل في صهر وابتلاع الأقليات، ومن ثم محاولة تكسير كتلة الأكثرية من خلال اللعب على الوتر الطائفي ومحاولة تذويب الجميع في بوتقة الحزب الواحد.. هذه العوامل كلها، إضافة إلى حساسية الموقع الجيوسياسي لسوريا، إضافة إلى الذاكرة القريبة للذات الجمعية السورية المرعوبة من التغيير المسلح على خلفية أحداث حماه، جعلت الحالة السورية تمتلك تعقيدا على الأرض لا يمكن التنبؤ بنهايات قريبة للأزمة على طريقة باقي الدول التي استفادت وبشكل كبير. هناك فارق بين الواقع الحقيقي والواقع كما تقدمه الميديا الحديثة على الإنترنت والفضائيات التي حاصرت الأنظمة السياسية وحلفاءها في الداخل والخارج بمأزق الصورة في ما يشبه محاكمة افتراضية على الهواء مباشرة على انتهاكات وجرائم تبدو - على فظاعتها - أمام ما يحدث في سوريا أشبه بفيلم رعب قصير أمام مسلسل سوري دموي طويل لا يمكن لمشاهديه التنبؤ بنهايته.

طبيعة النظام السوري الآن في حقبة الثورات، وإلى حد ما كان نظام البعث الزائل في العراق، أنه بات يتعامل مع الميديا على أنها في صالحه وليست ضده، لأسباب تتصل بطبيعة النظام وعلاقاته الدولية القائمة أساسا على قبوله كما هو بدمويته ونظام مخابراته وطريقته في إدارته للقمع، ولا أدل على ذلك من مشاهد تبثها الميديا ويظهر التصوير فيها بشكل يقترب من الاحترافية، مما يدل على أنه تم بواسطة عناصر من الجيش تنقل هذه المواد أبشع ما يمكن تخيله من طرق للتعذيب والإهانة والتنكيل فيما يشبه الرسائل التي يريد النظام من خلالها بث الرعب في نفوس المحتجين، طمعا في أن تسهم هذه المناظر الوحشية في إيقاف الإرادة الجماعية بالخروج والتظاهر اليومي.. عشرات الفيديوهات البشعة على موقع laquo;يوتيوبraquo; لعل أحد أكثرها فداحة ذلك المقطع الذي يقوم فيه عناصر من الجيش بالتأكد من مفارقة بعض المحتجين المصابين على الطرقات للحياة من خلال ركلهم للجريح ومن ثم الإجهاز عليه بطلقات من مسافة قريبة!

النظام السوري بات يدرك الآن، بعد مرور كل هذه المدة، أن الميديا لا يمكن أن تشكل تهديدا له، ما دام لا يزال قادرا على البقاء دون أي رد فعل حقيقي ذي جدوى للدول الكبرى أو المجتمع الدولي أو جامعة الدول العربية، وهو يدرك، من جهة ثانية، أن المعارضة السورية تضعف يوما بعد يوم أن تحدد ملامحها في شكل تكتل سياسي يعبر عن المحتجين الذين تجاوزوا موضوع الإصلاحات السياسية وهم ينطلقون بالآلاف حاملين كل يوم نعش من كان بالأمس يسير معهم في الاتجاه الجنائزي ذاته إلى حيث اللاعودة.

ومن جهة ثالثة فإن النظام يدرك، كما الجميع، أن عمر مفعول ما تنتجه الميديا من مناظر بشعة يظل محدودا في ظل تسارع الأخبار من هنا وهناك، وأن طبيعة الأولويات الإعلامية تختلف من وقت لآخر لأسباب لا تتصل بالمأساة الإنسانية، لكن بحسب مضامين المواد الإعلامية وعلاقاتها باهتمامات المشاهدين المرتبطة بغريزة متابعة الجديد المثير.

الأكيد أن الميديا البشعة التي يتفنن النظام السوري في إنتاجها بهدف الترويع أو يوثقها السوريون في ثورتهم السلمية تجاه النظام لن تكون عامل الإنقاذ أو حتى تسريع نهاية النظام، ما لم يحدث تغيير على الأرض، هذا التغيير يجب أن يبدأ من المعارضة أولا ومن المجتمع الدولي الذي يجب أن يتجاوز مرحلة العقوبات الاقتصادية التي لا تجدي في ظل قدرة النظام على العيش أكبر فترة ممكنة بحكم خبرته في التعامل مع الحصار الاقتصادي وبفضل حلفائه والمتعاطفين معه، وبسبب المناخ العام السلبي الذي خلفته الثورات إن على مستوى مرحلة ما بعد الثورة أو حتى أداء التدخل الدولي المباشر الذي أصبح النقاش والجدل حوله أشبه بالترف الأخلاقي البارد في مقابل حمام الدم الساخن في الواقع السوري.

هذه الحساسية تجاه أي تدخل عسكري وانتظار تحول دراماتيكي في الثورة السورية دون أي مقدمات أو أسباب يمكن أن تمهد لهذا التحول المنتظر، يقابله مراوغة وتلكؤ في التعامل مع الحالة السورية من قبل المجتمع الدولي والدول الغربية وحتى موقف الجامعة العربية البطيء الذي لا يناسب أبدا مسار الأحداث في سوريا. فمنذ انطلاق الأزمة السورية، إذا استثنينا الموقف السعودي الاستثنائي، فإن معظم الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة والدول الأوروبية، كانت ولا تزال إلى حد ما - بسبب غموض البديل على الأرض وإشكالية المعارضة الهشة - تطالب النظام بإصلاحات على مستوى الإدارة السياسية للبلاد لتتنازل بعد ذلك، ويكون الهدف الأساسي هو المطالبة بوقف حمام الدم وقمع المحتجين سلميا!

النظام السوري يدرك جيدا أن بقاء حلفائه الأساسيين، إيران وحزب الله، والدول التي تربطها بسوريا علاقات اقتصادية وسياسية كالصين وروسيا، مرهون بقدرته على إطالة مدة قدرته على احتواء الموقف على الأقل في دمشق والمدن الرئيسية ليتم تصوير ما يحدث على أنه فوضى طائفية أو احتجاجات عشائرية وجماعات متشددة، في حين أن الشعب السوري بتياره العريض فاجأ وما زال يدهش العالم، حتى الآن، بقدرته التي تتجاوز مفهوم القدرة والاختيار إلى القدر في سلمية الاحتجاجات وعدم انزلاقها إلى فوضى العنف، فيما يشبه أساطير التضحية الجماعية لإنقاذ أكبر قدر من الأبرياء والضحايا.. السوريون من منظور المجتمع الدولي العاجز والمرتبك في التعامل مع مأساتهم الإنسانية أشبه بمن يواجه إعصارا أو كارثة كونية حتمية يتعاطف الناس مع صور ضحاياها على الميديا وفي صدر نشرات الأخبار لتصبح مع مرور الزمن مجرد ذكرى حزينة تقبع في أرشيف الذاكرة.. الأكيد أن الميديا يمكن أن توثق مأساة السوريين، لكنها لن تكون وحدها عامل إنقاذهم.