شريف عبدالغني

فعلها laquo;خالد سعدraquo;. إنه laquo;صديقي الذي في قطرraquo;. لقد laquo;قلبraquo; عليّ المواجع.
هو واحد من ملايين المصريين الذين لم يأخذوا من أمهم مصر شيئا. كلما طالبوها بأبسط حقوق الابن ترد عليهم بغلظة: laquo;ماتقولش إيه إدتنا مصر.. قول هندي إيه لمصرraquo;. ليس صحيحا أن الأم تأخذ فقط من ابنها، فإن له حقوقا عليها، أهمها أن يشعر بالأمان في كنفها. والأمان يتطلب أن يجد المأكل والمشرب والتعليم والرعاية الطبية. ليس هذا فقط، بل أن تقدم إليه هذه laquo;الحقوقraquo; في إطار من الكرامة، وليس بأسلوب laquo;المنraquo; و laquo;ما أنتم إلا عبيد إحساناتناraquo;. البعض غلبه اليأس من مصر فتشتت في الغربة.. خارجها وداخلها. والبعض الآخر كفر بها فألقى بنفسه في رحلات الموت التي لا تصل غالبا إلى شاطئ النجاة الأوروبي.
laquo;خالدraquo; من الغالبية الذين ضنت عليهم مصر، لم تورثهم سوى أسوأ ما فيها: laquo;المرضraquo;. خذلتهم الأم وفضلت عليهم أولادها الآخرين من محترفي اللعب بـ laquo;البيضة والحجرraquo; وشغل laquo;النصبraquo; وlaquo;الثلاث ورقاتraquo;. إنهم أولاد الحرام الذين لا يُعرف لهم أصل ولا فصل.
لاحظ أن اسمه يكاد يتطابق مع laquo;خالد سعيدraquo; أيقونة الثورة الذي قتلوه بعدما ضبطوه متلبسا بحب الوطن.. حب من طرف واحد طبعا!
أزعم أنني من laquo;زمرةraquo; خالد المخذولين من أمهم، الذين لم يأخذوا منها سوى أسوأ ما فيها. لكني أعترف أنه يملك من الشهامة و laquo;الجدعنةraquo; ومساعدة الغير ما يتوافر لدى 100 من أمثالي. حينما تنحى laquo;مباركraquo; كتبت مقالا بريئا: laquo;أسقطنا مبارك ووطن العار.. واستعدنا مصرناraquo;. بعد كل هذه الشهور اكتشفت أنني كنت ساذجا كبيرا ومغفلا عظيما. فالرئيس المخلوع سقط اسما لكنه ما زال يحكم ويتحكم. إنه نهج ومنهج وعقلية وطريقة تفكير يسير عليها خلفاؤه. صعبٌ على من عمل تحت إمرته 30 عاما وطالما أشادوا بحكمته وحنكته وتوجيهاته أن يغيروا طريقته. laquo;وطن العارraquo; الذي أسسه مبارك وقام على الفقر والجهل والمرض والفساد لم يسقط. لم يقم وطن جديد نظيف وطاهر وصحي ومجتمع نقي خال من الازدواجية. نفس ثنائية الحكم قائمة.. انتهازية سياسية تساندها وتدعمها انتهازية دينية. الجديد أن السلطة القائمة أعطت laquo;الانتهازية الدينيةraquo;، الممثلة في نماذج من المتدثرين بعباءة الدين، والتي كانت تعمل أيام الرئيس المخلوع بتوجيهات من مباحث أمن الدولة وتحركها إصبع أصغر رتبة في الجهاز، أعطتها الشرعية وسمحت لها بخوض الانتخابات على أساس ديني وطائفي مقيت. كسبوا في البرلمان لأنهم استغلوا المساجد في الدعاية.. وصوروا منافسيهم على أنهم laquo;مرشحي الكنيسةraquo;. فاز laquo;الجامعraquo; لأن رواده الأكبر عددا! (ملحوظة: لا أقصد بكل ما سبق جماعة الإخوان المسلمين، لكن تيارا آخر).
laquo;خالد سعدraquo; ضحية هذه الثنائية. انتهازيو السياسية ويمثلهم أحد كبار رجال الأعمال ورمز ساطع من رموز حزب مبارك laquo;المنحلraquo;، استغلوا شعبيته وحب أبناء قريتنا laquo;أجهور الكبرى بمحافظة القليوبيةraquo; له، فاستمالوه إلى جانبهم. تغاضى عن كونهم يمثلون الحكم الفاسد، وصدق أكاذيبهم بأنهم يعملون في رحم النظام حتى لا يعطلوا مصالح الناس. هو يريد تحسين ظروف أهالي القرية ويشعر بمعاناتهم، لذلك ساند رجل الأعمال.. ساعده في الحصول على أصوات القرية التي تبلغ نحو 20 ألفا كفيلة بصعود أي مرشح بعيدا عن أعمال التزوير المعتادة. بعد النجاح ووصول الرجل إلى الكرسي البرلماني، فوجئ laquo;خالدraquo; بالحقيقة المرة.. أن وظيفته أن يكون laquo;حائط صدraquo; أمام غضب الأهالي تجاه الطاووس المتباهي بعضوية مجلس الشعب. غاب رجل الأعمال وتوسع في مشاريعه وترك صاحبنا وحده يواجه موجات الغضب. باع الجميع بعد أن ركبهم بالوعود أيام الانتخابات. كانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر laquo;خالدraquo;. قبلها بسنوات كانت الصدمة الأولى.. تجمع حوله مدعو التدين ومارسوا laquo;الزنraquo; في أذنه.. راحوا يفتون له بأن laquo;السياحةraquo;، التي كان يعمل بها وخاض شوطا طويلا من سنوات التعب أكسبته خبرة كبيرة، هي laquo;حرام حرام حرامraquo;. أقنعوه أن كل خطوة يخطوها إلى مدينة نويبع بسيناء حيث مقر عمله ومصدر رزقه، يأخذ عليها أوزارا تنوء عن حملها الجبال. ترك العمل بناء على نصيحتهم.
لاحظ أن مدعيي التدين هؤلاء هم التيار الديني الوحيد الذي يعتبر كل المنتمين إليه أنهم دعاة!!
ضاق بمصر كلها، واتجه إلى قطر. هناك كانت صدمة ثالثة تنتظره. تعرض لحركة laquo;نذالةraquo; من أحد المصريين، الذين سبق ووقف بجانبهم كثيرا. عاش وحيدا في ظروف صعبة نحو عامين. تركوه في laquo;عسرهraquo; لأنهم تعودوا أن يستغلوه في laquo;يسرهraquo;. حينما بدأت أحواله تتحسن بعدما عمل في شركة قطرية كبيرة، وسانده مسؤولوها المحترمون في ألمه ومرضه نتيجة ما لمسوه من كفاءته وأمانته، لم تتركه مصر في حاله رغم أنه غادرها لا يريد منها جزاء ولا شكورا. حاصرته في قطر بعدد من المتطفلين الطماعين المتنطعين الذين عادوا للتقرب إليه. تأكدوا أن laquo;الشدةraquo; زالت فحان وقت الاستغلال. وجد نماذج من تلك التي سبق وأفتت بأن laquo;السياحةraquo; حرام، لا تكف عن طلب مصالح شخصية منه دون مراعاة ظروفه وأسرته. ثم يأتيه رقم من مصر يتصل ويغلق الخط، يقلق laquo;خالدraquo; فيطلب الرقم ليفاجأ بأحدهم يريد منه الاتصال برجل الأعمال الذي سبق وخذل الجميع من أجل خدمة خاصة. ثم كانت الطلبات الأسخف: laquo;عاوزين سلفة عشان كذاraquo;.. فيدفع ولا يردون إليه. لا يكتفون ويطلبون المزيد وبمبالغ كبيرة قد يظل عاما كاملا حتى يدخرها. لا يكترثون أن عنده أطفالا صغارا يحتاجون الكثير.
اتصل بي مؤخرا يشكو همه، فقلب عليّ مواجع الحياة داخل مصر، والملاحقة من laquo;المتنطعينraquo; خارجها. بعد مكالمته المسائية ونومي حدث لي شيء غريب. رأيت حلما جميلا عن وطن ربما لا نظير له في الواقع. قررت الخروج من مصر، وجدت نفسي أركب سحابة في السماء ومعي أمي.. مرت بنا فوق بلد صحراوي. رفضنا النزول. واصلت سيرها حتى وجدنا أرجلنا التي تتدلى من السحابة تصطدم بجزيرة جبلية رائعة الجمال، بها خضرة لم أر مثيلها في حياتي، وخضراوات طازجة بلا هرمونات ولا مبيدات ولا تروى بمياه الصرف الصحي. نزلنا ورأينا من بعيد جزيرة أخرى ساحرة مكتوب عليها أنها للسياحة. قالوا لي إن هذا الوطن الأسطوري مكون من عدة جزر، وكل واحدة مخصصة لأمر محدد. عندها ظهرت زوجتي وأولادي سعداء مبهورين بالمنظر، ورأيت جزيرة أخرى للتعليم فقط بها مدارس لزوم الأطفال.
الحلم الجميل الذي عشته ترجمة لأفكار تسكن الرأس. لا أطمع في وطن خيالي.. فقط وطن يحترم آدمية الإنسان ويحيا فيه بكرامة بدون سلطة غاشمةraquo;. مشوفش فيه مظلوم ولا ظالم.. laquo;ولا حد يجرح فرح التانيraquo; كما يقول لطفي بوشناق. الهرب إلى الخيال هو البديل الوحيد الذي أملكه حاليا للبعد عن واقع جلف لا يرحم.
لو استطعت الهجرة إلى هذا الوطن.. هل تتركنا مصر في حالنا ويكفي الله المؤمنين شر القتال؟
laquo;خالدraquo; فعلها واتجه إلى قطر -وهي بلد مثالي للمعيشة- لكنهم لم يتركوه يهنأ فيها. كأنه لا يكفيه ما أصابه من laquo;ثنائيةraquo; الانتهازية السياسية والدينية في مصر، فأرادوا تنغيص حياته خارج الحدود.
أينما تكونوا يدرككم laquo;الأذىraquo; من أمكم وأولادها المتطفلين الطماعين. وربما هذا مصير كل laquo;خالد سعدraquo; مصري!