التدخل السلمي العربي في سوريا
علي الغفلي
الخليج
لا تزال أزمة الحكم مستمرة في سوريا منذ عشرة شهور، وهو استمرار يحمل في طياته كافة المضامين المؤسفة، مصدرها الأساسي لجوء النظام الحاكم إلى رفع تكلفة التغيير السياسي إلى حدود مؤلمة، تصل في الجانب البشري منها إلى مقتل نحو عشرين شخصا كمعدل يومي، وتفتح في الجانب السياسي منها المجال أمام القطر السوري للدخول في آفاق المجهول، الذي تترواح احتمالاته بين وقوع البلاد في الحرب الأهلية، أو الدفع باتجاه التدخل الدولي، وربما امتداد الوضع الراهن في سوريا إلى عام آخر من العنف والغموض .
إن معظم التفاصيل المتعلقة بالأزمة السورية جامدة وكئيبة وتبعث على الابتئاس . فمن جهة، لا يزال نظام الأسد يغالط ويماطل ويستبيح دماء الشعب السوري، ومن المؤكد أن الخطاب الماراثوني الذي ألقاه بشار الأسد منذ اسبوعين يجهض احتمال أن يعرض هذا النظام أية مبادرة بناءة أو يقدم أي تنازل يمكن أن يسهم في مساعدة الدولة السورية على اجتياز مرحلة التغيير السياسي بطريقة آمنة .ومن جهة ثانية، فإن القوى الكبرى مستمرة في الإخفاق المقلق بشأن التعامل مع الأزمة السياسية في سوريا، وذلك على الرغم من ضخامة الثمن الإنساني الذي يتكبده الشعب السوري على مرآى من الجميع . من المؤكد أن المطلوب على المستوى الدولي هو ليس القيام بتدخل عسكري على غرار الحالة الليبية، ولكن المطلوب هو بذل الجهود السياسية والدبلوماسية اللازمة لعزل وإضعاف واجتثاث نظام الأسد، وهو أمر لم يحدث حتى الآن بسبب انشقاق كل من موسكو وبكين عن إرادة المجتمع الدولي الهادفة إلى تحقيق هذه النتائج .
ومن جهة ثالثة، فإن عدم فاعلية قوى المعارضة السورية في جوانب مهمة من أدائها لا تزال تنتقص من قدرة هذه المعارضة على تحقيق التقدم المطلوب نحو إضعاف نظام الأسد، وتنسحب مشكلات أداء المعارضة على الذراعين السياسي والعسكري، وذلك فيما يتعلق بفاعلية أداء كل منهما على حدة، وأيضا بطبيعة التنسيق والتعاون فيما بينهما، والذي ظل محدوداً ولم يتبلور بشكل مؤسسي إلا في الشهر العاشر من عمر الثورة .
من السهل أن يقع المهتمون بالأزمة السورية والمتعاطفون مع المعاناة البشرية التي تنطوي عليها في غياهب اليأس من احتمال سقوط النظام أو احتمال نجاح الثورة، وفي حقيقة الأمر فإن هذه هي النتيجة التي يهدف نظام الأسد إلى الدفع باتجاهها، ويمتلك هذا النظام سجلاً تاريخياً من دفع خصومه وأعدائه إلى خانة القنوط والرضوخ للوضع الراهن، وذلك من خلال استخدام مزيج يتكون من السيطرة على أوراق اللعبة الاستراتيجية، والتهديد بالعنف واستخدامه حين يكون ذلك ممكناً، والتفنن في المراوغة والممطالة من أجل إضاعة الوقت، الأمر الذي يفضي في نهاية المطاف إلى استسلام الأطراف الأخرى للوضع الراهن الذي يفضله النظام الحاكم .
وفي ظل الجمود السائد والمكلف، فإن التطور الواقعي الوحيد والمهم الذي شهدته الأزمة السورية يتمثل في قرار جامعة الدول العربية التدخل السلمي، وذلك من خلال إرسال بعثة المراقبين العرب، للقيام برصد الوضع المتعلق بالاحتكاك بين قوات الأمن والشعب في مختلف المدن السورية، وتقييم مدى التزام نظام الأسد بسحب آليات العنف من الشوراع والميادين العامة، وذلك بهدف إيقاف نزيف دماء المتظاهرين المطالبين بزوال النظام الحاكم .
لقد ظل المعنيون بدراسة النظام الإقليمي العربي يطالبون خلال العقود الماضية بأن تتولى الدول العربية مهمة التصدي لمعالجة المشكلات والأزمات التي تواجه الوطن العربي، وذلك بعيدا عن تدخل القوى الخارجية، وظلت هذه المهمة مناطة بجامعة الدول العربية وذلك بوصفها منظمة حكومية وإقليمية . ومن أسف، فإن معظم المشكلات العربية ظلت بعيدة عن التناول الفاعل من قبل جامعة الدول العربية، وتم السماح للقوى الخارجية للتدخل في معالجة بعض من أهم الأزمات التي عصفت بالعالم العربي .
يستخدم نظام الأسد مزيج الأدوات المفضية إلى اليأس بهدف هزيمة ثورة الشعب السوري . لقد قررت الجامعة العربية التدخل من أجل معالجة هذه الأزمة، ولذلك فإننا نقف الآن أمام واحدة من الحالات القليلة التي تصدت من خلالها هذه المنظمة لمواجهة أزمة عربية حرجة، ويجسد الدور الذي تلعبه الجامعة العربية في هذا الخصوص التطور الوحيد الذي من شأنه أن يكسر جمود الأزمة السورية ويبعث على الأمل الحقيقي في السير بها نحو الحل . والحال كذلك، يتعين على الجامعة العربية أن تتسلح بالصبر والمثابرة وقدرة التحمل، وذلك حتى تتمكن من مجاراة نمط الإنهاك الماراثوني الذي شرع نظام الأسد في استخدامه حيال تدخل الجامعة في الأزمة .
إن التدخل السلمي العربي في سوريا هو المسار الأكثر واقعية للتعامل مع أزمة تغيير الحكم في هذه الدولة . ولذلك، لا يوجد مكان لاستعجال النتائج المترتبة من جهود الجامعة العربية تجاه الأزمة السياسية والإنسانية في سوريا، ومن الخطأ القفز إلى استنتاج إخفاق مهمة المراقبين، ولا يجب التسرع في قرار إخراج موضوع الأزمة من نطاق هذه المنظمة العربية العتيدة . وفي نفس السياق، يتعين على الجامعة أن تتخذ القرار الصحيح، وذلك بأن تستمر في التمديد لمهمة المراقبين العرب في سوريا أكثر من مرة، طالما تطلب التدخل السلمي العربي هناك ذلك . إضافة إلى ذلك، يجب أن تواجه الجامعة محاولات الإحباط والإفشال التي يتقن نظام الأسد ممارستها بجملة من الإجراءات المبتكرة التي يتعين على العقول الخلاقة المبادرة إلى استحداثها بغرض زيادة فرص نجاح دور الجامعة في الأزمة السورية .
يجب أن تستبعد الجامعة فكرة إرسال قوات عربية إلى سوريا تماما، ذلك أنها بمثابة تسليم يائس بفشل الدور الدبلوماسي الذي يجب أن تستمر الجامعة بتأديته والنجاح فيه . ويتعين أن تعمد الجامعة العربية إلى فتح جبهة من الضغط الدبلوماسي على كل من موسكو وبكين، وذلك بهدف ممارسة أدوات النفوذ السياسي الفاعل من أجل التأثير على موقفهما المساند لبقاء نظام بشار الأسد واستمرار العنف المميت الذي يستخدمه ضد شعبه .
طيب تيزيني
ليست quot;مؤامرة خارجيةquot;!
الاتحاد الاماراتية
حين خرج شباب سوريا إلى الشوارع قبل عشرة أشهر، كانوا يدركون أن أعظم شعار يمكن أن يطلقوه بعد أربعين عاماً، يتلخص بالثلاثية الكبرى: حرية وكرامة وديمقراطية. بيد أن سادة النظام الأمني لم يدركوا، في بواكير الانتفاضة، أن تلك الثلاثية ستتحول بعد بعض الوقت من quot;هبَّةquot; طارئة يمكن محاصرتها بثُلة صغيرة من رجال الأمن وجعْلها quot;درساً لمن يعتبرquot;، إلى حدث هائل الدلالة. فلقد أطلق السادات على quot;الغلاباquot;، الذين خرجوا في مصر مطالبين بالكرامة والخبز، quot;انتفاضة الحراميةquot; منذ عدة عقود، وانتهى إلى سحقهم. وقد جاء الآن، ذوو الأربعين عاماً من حكم في سوريا quot;يراد له أن يكون إلى الأبدquot;، فوجدوا أنفسهم، شيئاً فشيئاً، أمام ما أحسوا أنه قد يجسِّد حالة يمكن أن تكون فريدة في تاريخ الثورات والانتفاضات. وبالطبع، اتضح أن ما هو حتى الآن في طور الحدث في سوريا، مختلف عمقاً وسطحاً عن quot;انتفاضة الغلاباquot; إياها في حينه.
فإذا رأى السادات في أولئك الذين لم يكونوا يملكون حتى أجسادهم، فإن الأحفاد السوريين راحوا يظهرون كباراً من حيث هم طلاَّب quot;عدالة - خبزquot; مع الحرية والكرامة والديمقراطية. وبالطبع، نحن هنا نأخذ بالاعتبار خصوصية كل من المرحلتين الاثنتين في مصر وفي سوريا، مع العلم أن الانتفاضة المصرية قدمت الآن حالة كبرى في انتصارها. وإذ ذاك quot;بُهتَ الذي رأىquot;، فراح الإعلام السوري يُنتج ما أراد له أن يكون تغطية للحدث الجديد، الذي ظهر كأنه مفاجئ. فكان، من ثم أن أُنتجت من ذلك الإعلام ثلاث مقولات، في واقع الحال quot;المستجد به، وتلك هي: quot;المؤامرة الخارجيةquot;، وquot;جموع المندسِّين من الإخوان والسلفيينquot;، وأخيراً quot;دعاة الطائفية التي لا تُبقِي ولا تذرquot;. هكذا بدأت عجلة الإعلام في النظام السوري في مواجهة quot;المؤامرة الخارجية المزعومةquot; بأطرافها المتعددة، الإسرائيلي والأميركي والفرنسي...إلخ، الذين يسعون تحت راية الاستعمار الجديد والصهيونية والامبريالية، إلى تدمير بلد عمل على مدى أربعين عاماً في سبيل خلق quot;وطن حرquot; وquot;شعب سعيدquot;، وبذلك، جرى التنكر للشعب السوري بمطالبه في التأمين لمجتمع وطني ديمقراطي، واستُبدل بـquot;مؤامرة خارجيةquot; تقود حرباً ضد النظام السوري.
وملفتٌ ومؤلمٌ أن من أعلن أن أمن إسرائيل هو من أمن سوريا، لم يُساءل أبداً، أما الشعب السوري بشبابه الذين يفتقدون الحرية والكرامة والعمل، فقد أتُّهم بأنه وراء مؤامرة مدبَّرة ضد بلده. وفي هذا، جرى التنكر النظري السياسي لضرورة القيام بإصلاح للبلد يضع السُّراق والمجرمين والفاسدين المفسدين، أمام قضبان العدالة، بينما تعرض الشباب -وهم فئة ذات أهمية عظمى في المجتمع السوري لرفعهم شعارات الإصلاح الشامل- لاستباحة ربما لم تمرّ مثيلة لها في التاريخ السوري والعربي.
لقد طغى طوفان الخراب والتدمير، بدلاً من الاستجابة لشرف الإصلاح. إذ إن هذا الأخير لا يمثل رذيلة أو ثأراً، بقدر ما هو الآن فضيلة الفضائل، ناهيك عن أنه إذا بقي بلد ما هو سوريا، داشراً معرضاً للاستباحة بكل صيغها، فإن ذلك يجعله quot;قصراًquot; يعيش تحت قبضة الحطام، ومن ثم، سيكون الخطر في هذه الحال متجهاً إلى البلد ذاته ومن حيث هو. على هذا، يمكن القول إن إيصال البلد إلى هذا الحد من الحطام، إنما هو طريق لتدخّل أجنبي يجد في أسوار البلد العالية ولكن الهشّة والمُنتهكة، طريقاً لفتح أسواره هذه. وطالما عالج سياسيون ومصلحون وقادة وطنيون هذا الحال من وجهة النظر القائلة بأن ترك الوطن هشاً منهوباً مستضعفاً إنما هو إعطاء الإشارة إلى دخوله. لا يمكن أن تدخل جيوش ولا خبراء ولا غزاة وطناً من الأوطان إذا كان من يحميه غير جدير به، وهذا هو درس التاريخ البشري لمن يسعى إلى أن يمتلك القدرة على تأسيس وطن جدير هو وأهله به.