مالك التريكي

من المواقف التي أصبحت رائجة على لسان كثير من المتحدثين إلى وسائل الإعلام في تونس القول بأنه لا يحق لأحد الخوض في هذا الشأن أو ذاك، أو التعليق على هذه الحادثة أو تلك. إذا سألت لماذا؟ أتاك التعليل المفحم في صيغة مقولبة مكرورة: ... لأن القضية لا تزال أمام نظر المحكمة، ونحن نؤمن باستقلالية القضاء ولنا ثقة في نزاهة القضاء (وكثيرا ما يضيف المتحدث أن 'معظم القضاة في بلادنا شرفاء'). وبما أن القضاء ما زال لم يقل كلمته الفصل -إذ هكذا تسير الأمور في 'الدول الديمقراطية'- فمن الخطأ فتح باب الكلام في الموضوع أصلا، بل لا بد من ترك العدالة تأخذ مجراها...
كلمة حق يراد بها حق في بعض الحالات، ويراد بها باطل في أكثرها.
أما أحدث الأمثلة على موقف 'لا بد من ترك العدالة تأخذ مجراها' هذا، فهو ما قاله ممثل لجهاز الأمن قبل يومين بشأن قضية المرأة التي اعتدى عليها اثنان من رجال الشرطة بالاغتصاب. قال: يا ناس ما زالت المحكمة لم تقل كلمتها!
وقد يظن السامع أن المحكمة ما زالت لم تقل كلمتها في قضية الاغتصاب. وهل هناك قضية سواها؟ إذا كان هذا هو الظن، فلا بد من الاقتصاد في التفاؤل. ذلك أن ما يشغل بال المحكمة ليس هذا بالمرة، بل إن ما يشغل بالها قضية أعجل وأخطر وأفظع: قضية ما إذا كانت المرأة الضحية قد ارتكبت فعلة الإخلال بالآداب العامة، مثلما اتهمها بذلك شاهدان محايدان. شاهدان فاضلان استبدت بهما الغيرة على الأخلاق. أما الدليل على حياد الشاهدين وصدقهما فهو أنهما ليسا سوى رجلي الشرطة السابق ذكرهما: أي أنهما المجرمان اللذان انتهكا عرض المرأة!!!
ولأن معجزات هذا المنطق القانوني المحلّق في الأعالي ربما لا يتيسر فهمها للجميع، فإن وزير العدل سارع إلى الشرح بأن تعرض المرأة للاغتصاب لا يعني تبرئتها من التهمة الأخرى! أي أن التهم لا ينفي بعضها بعضا. بل إن كلا يأخذ مجراه... بالتساوق والتوازي. إنه التعايش السلمي بين التهم!
تلك هي القاعدة الشكلية. أما القاعدة الاساسية، فهي التالية: اعلم أنه أيا كانت تعقيدات الوضع وحيثيات القضية، فإن مصدر 'الخطيئة الأولى' لا يمكن أن يكون إلا المرأة. وما يعنيه هذا عمليا هو أن تهمة الاغتصاب لا يمكن أن تبطل ما سبقها أو جاورها - أي ما 'بررها' - من تهم. فلو لا المرأة والوضع الذي ضبطت متلبسة فيه، لما...
هكذا تتألب المؤسستان الأمنية والقضائية على الضحية. فإذا بها تصير - بقدرة قاض وبوليس - متهمة، والحال أنها هي التي تعرضت لأبشع عدوان يمكن أن ينزل بأي كائن بشري. أما المتحدث باسم جهاز الأمن، فقد أراد، بغرض توسيع مداركنا، وضع المسألة في نصابها البوليسي الصحيح، فإذا به يقول دون أن يضحك: لقد وقعت حادثة مماثلة في فرنسا العام الماضي ولم يكد يسمع بها أحد، بل إن 'العدالة أخذت مجراها' وانتهى الأمر. إلا أن الغريب أن الحادثة التي وقعت عندنا سرعان ما تحولت إلى قضية ذات أبعاد وطنية بل إقليمية، قضية قامت الدنيا بسببها ولم تقعد!
صحيح أن جرائم الاغتصاب شائعة في البلاد العربية وأن الضحايا يفضلن نار الصمت على عار الفضيحة. وصحيح أن طمأنينة المجرمين في بلاد الغاب إلى دوام الإفلات من العقاب إنما يشجعهم على تصيد الضحايا. أما إذا تعقدت الأمور، فليس أسهل من الاستنجاد بالقاعدة الارتكاسية: اتهام الضحية بارتكاب الخطيئة الأولى المخلخلة لنظام الكون الاجتماعي.
لكن الجديد هذه المرة أن المرأة الشابة قد استجمعت من الشجاعة ما مكنها من تحدي كل الضغوط الاجتماعية والمحرمات الثقافية. إذ إن الدعوى التي رفعتها ضد المغتصبين قد أنهت زمن الصمت.
زمن اضطرار الضحية للتستر على جلادها ولتغييب محنتها وإغفالها من الذكر وإسقاطها حتى من التسمية. بفضل شجاعة هذه المرأة الشابة أصبح الاغتصاب، المسكوت عنه عقودا، يحتل الصدر من قضايا الرأي العام. بفضل شجاعة 'أخت الرجال' هذه - أخت محمد بوعزيزي - بدأ زمن جديد مديد: زمن محاكمة الهمجية الذكورية المدعومة بالسفسطائية القانونية. الهمجية التي تملأ هواء حياتنا بسموم العنف الجسدي واللفظي وتمنع مجتمعاتنا من بلوغ سوية الإنسانية.