صالح عبد الرحمن المانع
يُعرَّف التسامح بأنه اعتراف الفرد أو الجماعة بحق الآخرين في العيش ضمن نظام قيمي مختلف عن النظام القيمي القائم الذي تمتلكه الأغلبية داخل المجتمع. ولم يكن التسامح سمة إنسانية قديمة، ولكنه مصطلح عرفته بعض الديانات والمذاهب ومنها الإسلام والمسيحية، خاصة في صيغتها النقيّة الأولى قبل أن تتبدّل القيم الأصيلة لهذه الأديان، أو تطبع بطابع مؤسسي يميل إلى التداخل بين القيم والنظام السلطوي في المجتمعات البشرية.
وفي تاريخ الإسلام الطويل، عامل المسلمون أتباع الأديان الأخرى الذين يعيشون في كنفهم معاملة طيبة، وسمحوا لهم بحكم أنفسهم وأتباعهم خاصة في مسائل الأحوال الشخصية. وكرّست الدول الإسلامية هذا المفهوم عبر تبنيها للعديد من النظم والقوانين، لعلّ من أشهرها قانون الملل والنِّحَل، الذي اتبعته الدولة العثمانية للتعامل مع الأقليات داخل كنفها.
وفي القرون الوسطى، حين كانت بعض الدول المسيحية تمارس اضطهاداً ضد أتباع الديانة اليهودية، كانت الدول الإسلامية تحتضن هؤلاء المُهجَّرين، خاصة من بلاد الأندلس، وربما اتخذت بعض المثقفين منهم وزراء مؤتمنين على خزائن الدولة، كما كان الحال مع دولة المماليك، ومع الدولة العثمانية، حيث كان معظم وزراء المالية فيها، إما من المسيحيين أو اليهود.
وقد ظهرت خلال العام الماضي والنصف الأول من هذا العام حملة في عشرين ولاية أميركية تنادي بضرورة إقصاء أي تفسير أو قانون للشريعة من بين أيدي القضاة الأميركيين. وظهرت هذه الحملة أول مرة في ولاية أوكلاهوما، حين وافق الناخبون في الولاية في نوفمبر 2010، على مشروع قانون يحمل رقم (SQ755) طرحه النائب المحلي quot;ريكس دونكانquot; ويذهب هذا التشريع إلى quot;تحريم قيام المحاكم في الولاية بالنظر في أي تشريعات لأمم أخرى أو ثقافات أخرى، وعلى وجه الخصوص بجعل القانون أو الشريعة موضوعاً قانونيّاً يمكن الاحتكام إليه في هذه المحاكمquot;.
وقد رفع مواطن مسلم في نفس الولاية، يُدعى منير عواد، قضية إلى المحكمة الفيدرالية يرى فيها أن مثل هذا التشريع المُستحدث يناقض حقه الدستوري في كتابة وصيته لتقسيم الإرث بين أبنائه بعد مماته، وبالتالي فهو مناقض للمادة الأولى من الدستور الأميركي الذي يسمو فوق دستور وتشريعات ولاية أوكلاهوما، بما فيها مثل هذا التشريع المُستحدث المعادي للشريعة الإسلامية.
وعلى رغم تبني ولايات أخرى لمثل هذا التشريع، إلا أنّ قرار المحكمة الدستورية في العاشر من يناير 2012، اعتبر تشريع ولاية أوكلاهوما لاغيّاً لتعارضه مع مبادئ ومواد الدستور الأميركي.
ولم ينبرِ فقط المثقفون والمسلمون الأميركيون لمقارعة هذا التشريع، بل انبرى كذلك بعض الأكاديميين اليهود الشرفاء لمقارعة التوجه.
وكتب كل من البروفيسور quot;إلياهو ستيرنquot; أستاذ الدراسات العبرانية في جامعة quot;ييلquot; مقالاً مهمّاً في quot;نيويورك تايمزquot;، كما كتب الدكتور quot;نوح فيلدمانquot; أستاذ القانون بجامعة هارفارد كتاباً عنونه بـquot;تراجع وقيام الدولة الإسلامية مجدداًquot;. وبينما انتقد البروفيسور quot;ستيرنquot; التوجه العنصري ضد المسلمين الأميركيين وطالب بجعل الثقافة الأميركية مبنية على الثقافة الإبراهيمية، بدلاً من الثقافة المسيحية- اليهودية، فإن quot;فيلدمانquot; رأى أنّ العودة إلى حكم الشريعة في البلدان الإسلامية لا يتعارض مع القيم الديمقراطية الغربية.
والحقيقة أن فترة الانتخابات عادة ما تكون من أسوأ فترات غياب روح التسامح والمحبة في المجتمعات الغربية، ومع اشتداد حمى الانتخابات الفرنسية في الوقت الأخيرة، فإن التنافس بين ممثلي الجبهة الوطنية وممثلي التحالف من أجل الجمهورية في محاولة محاربة طقوس الذبح الموجودة في فرنسا لدى المسلمين واليهود quot;اللحم الحلال والكوشرquot;، يرينا بكل وضوح كيف أن القيم الأساسية لبعض الأقليات يمكن أن تهان لكسب حفنة من الأصوات.
ولاشك أنّ التسامح يعتمد على قيم الحوار والقبول بالآخر. وبالنسبة للأقليات المسلمة في البلدان الغربية، فإنّ ذلك يعتمد على قبولهم بالعيش ضمن الأغلبية ومحاولة الاندماج مع تلك الأغلبية. ومثلما تختلف قيم التسامح الاجتماعي من بلدٍ إلى آخر في الولايات المتحدة وأوروبا، فإن نظرة الأقلية لقيم الأكثرية وقبولها بها تعد كذلك معياراً مهمّاً للاندماج. وربما حالت القيم الإسلامية دون قبول قيم الأغلبية. فمعظم المسلمين في أوروبا لا يقبلون بتبني قيم الإجهاض، أو قبول العلاقة الجنسية بين المرأة والرجل قبل الزواج.
وحسب دراسة أجراها كل من quot;مغالي رهولتquot; وquot;داليا مجاهدquot; لصالح مجموعة quot;جالوبquot; لاستطلاع آراء المسلمين في عددٍ من البلدان الأوروبية عام 2008، فقد وجدت الدراسة أنّ 22 في المئة من المسلمين الأميركيين يقبلون بفكرة الإجهاض، بينما يقبل بها ضعف ذلك (40 في المئة) من عموم الشعب الأميركي. ويقبل 34 في المئة من المسلمين في برلين بفكرة الإجهاض، بينما يقبل بها 53 في المئة من الشعب الألماني. وفي حين يقبل 10 في المئة من مسلمي لندن بهذه الفكرة، فإن 55 في المئة من الشعب البريطاني يقبل بها، ويقبل 24 في المئة من مسلمي باريس بالإجهاض، بينما توافق أغلبية عارمة من الشعب الفرنسي (77 في المئة) على مثل هذه لفكرة وتجدها مقبولة أخلاقيّاً.
ومن هذه النسب وغيرها، يتضح أن مسلمي بريطانيا يعتبرون من أكثر الأقليات المسلمة محافظة في أوروبا، بينما يُعتبر مسلمو برلين من أكثر الأقليات المسلمة انفتاحاً وقبولاً بالقيم الغربية، ويأتي بينهما كل من الأقليات المسلمة في فرنسا والولايات المتحدة.
ولا يستطيع الباحث تحديد السبب الرئيسي وراء مثل هذا التباين، وهل يمكن ربطه بفترة إقامة هذه الأقلية في البلد المعني؟ أم لكون معظم أبنائها ينحدرون من أصول عرقية معينة (الباكستانيون في بريطانيا، الأتراك في ألمانيا، المغاربة والجزائريون في فرنسا).
وهناك حاجة لتقصّي أسباب مثل هذا التباين في صفوف الأقليات المسلمة في البلدان الأوروبية.
وينبغي القول إنّ المحافظة على القيم الدينية الأصيلة لها علاقة بالعمر والتوجه الديني والانتماء السياسي، ولا غرو أن معظم الأقليات المسلمة تنتمي إلى الأحزاب المحافظة في هذه البلدان، إلا إذا شعرتْ بأن مصالحها قد تأثرت ببرامج هذه الأحزاب، أو بالخطاب السياسي لقادتها.
التعليقات