سليمان تقي الدين

دخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة في انتقال المواجهة إلى العاصمة دمشق والعمليات النوعية التي تستهدف نخبة النظام، ولاسيّما خلية إدارة الأزمة فيه . ليس بالضرورة أن تشل العمليات العسكرية هذه قدرة النظام على زيادة منسوب القمع، لكنها تؤشر إلى إتساع حجم الفوضى وإلى الخسائر المتبادلة التي تدعو إلى التفكير بأن مسار العنف سيؤدي إلى تفكك الدولة السورية .

في واقع الأمر تدفع سوريا ثمناً باهظاً بسبب تدويل أزمتها وتضارب مصالح الدول الكبرى، ورغبتها في تحقيق مكاسب على حساب آلام الشعب السوري وتضحياته . أثبت المجتمع الدولي عجزاً فاضحاً عن التعامل مع الجانب الإنساني من الأزمة . لا تمثل بعثة المراقبين أي كابح للجرائم التي تُرتَكَب ولا جدوى حيث لا محاسبة . إن رئيس البعثة الدولية العربية كوفي عنان أعلن غير مرة عن فشل مهمته وعن يأسه من إمكان وضع حد لتصاعد العنف . منذ اللحظة الأولى لاندلاع الأزمة طغت على صورتها المصالح الدولية . فلم يكن هناك مرجعية هدفها التدخل الإنساني فقط، فضلاً عن وجود سوابق لتدخل الأطلسي كانت نتائجها مأساوية . فمن المعروف أن سوريا تحتل موقعاً مهماً في قلب المعادلات الاستراتيجية وتمثل عقدة حيوية لقضايا وملفات تمتد على دائرة إقليمية واسعة . فلا أحد من دول العالم ينظر إلى الملف السوري نظرة إنسانية، ولا أحد يضحي بشيء من مطامعه من أجل تخفيف معاناة الشعب السوري . لقد مثلت الأزمة السورية مناسبة ثمينة للتحالف الروسي الصيني لكي يبحث عن شكل من أشكال التوازن مع التوسع الغربي غير المحدود في العقود الثلاثة الماضية . بل إن الغرب تمدّد في آسيا وأنشأ قواعد ومنظومات سياسية وأمنية تهدد مصالح هاتين الدولتين اقتصادياً وعسكرياً .

لا تستخدم الدول الكبرى الآن وسائل الضغط التي تقود إلى تفجير نزاع دولي خطر، لكنها تتوسل وتستخدم مواقع نفوذ تؤدي وظيفة فاعلة على المدى البعيد . إن الاستنزاف الذي تتعرض له سوريا وحلفاؤها بشرياً ومادياً وسياسياً لا يمكن تعويضه بأي شكل من الأشكال . إن المحور الذي تنتمي إليه سوريا هو الذي يدور الصراع على أرضه وبمقدراته، والمصالح التي يمكن أن يجنيها التحالف الروسي الصيني لا تتمثل في الموقع السوري، بل هي تتجه إلى تقاسم نفوذ قد يكون في إطار جغرافي أوسع . لذا لا نجد الغرب مستعجلاً على إدارة حوار حقيقي عن تسوية تبدأ من الملف السوري . ما يهم الغرب في سوريا هو نزع مخالب النظام التي أدار من خلالها صراعه مع الدولة العبرية . وقد نجح الغرب حتى الآن في نزع الكثير من المخالب، وفي تعطيل إمكان نهوض سوريا بدور إقليمي في المدى المنظور . إن ترسانة السلاح السورية التي تراكمت خلال عقود والمكتسبات العسكرية من التعاون مع إيران، باتت الآن خارج التداول . لا شيء يقلق الدولة العبرية الآن إلا تسرّب السلاح النوعي إلى الجماعات غير الخاضعة لضوابط قانونية وحسابات دولية، علماً أن مثل هذه الأسلحة هي تحت المراقبة الفعالة لكل من روسيا وإيران ولن يكون في مصلحة أي من الدولتين إفلات هذه الأسلحة من سلطة الرقابة . فالدولة العبرية ستجد لنفسها ذريعة في نهاية المطاف لكي تدخل المسرح الحربي وإملاء شروطها السياسية لحظة انهيار الدولة السورية أو اتساع الفوضى .

أمام هذه المخاطر يفقد لبنان تدريجياً عناصر مناعته ويتحول التمادي في تعليق المشكلات وعدم حل الخلافات إلى عبء ثقيل على احتمالات فرض الحلول الخارجية عليه . صحيح أن لبنان قد حافظ حتى الآن على حد من عدم التورط المباشر في الأزمة السورية، رغم تداخل عناصر الأزمتين اللبنانية والسورية، إلا أنه لم يتقدم على طريق معالجة انقسامه الداخلي بتفاهمات أساسية تحفظ وحدته . هناك مشهد لبناني مثقل بالأزمات والمشكلات، وهناك تراجع مذهل لدور الدولة وهيبتها وفعالية مؤسساتها، وهناك ضغوط اجتماعية تتخذ وجوهاً طائفية ومذهبية، ما يجعل البلد ضعيفاً وهشّاً أمام أي حادث طارئ كبير . فلا الحوار تقدم، ولا الحكومة قادرة على ممارسة سلطتها، ولا الجماعات الطائفية وأحزابها أدركت بعد أن صراعاتها تجاوزت حدود توسيع النفوذ إلى دائرة تهديد الأمن والاستقرار .