طيب تيزيني

يجري الآن تداول عدد من المصطلحات السياسية التي ترتبط بالأحداث الكثيرة التي تعصف بالعالم العربي، وهنالك حالة محددة تنبث في بعض البلدان العربية، مثل مصر وتونس وسوريا، حيث تبرز حالة على صعيد الفعل السياسي والدولي، تتمثل في القول بأن الدولة الجديدة بسبب صدقيتها في مواجهة الظلم، هي دولة الجميع وهي للجميع، ومن ثم لا مكان للأسئلة في هذه الحالة الخاصة، حالة العدالة العامة، دون استثناء أو اعتراض. وعلينا أن نضيف هنا أنه في ظروف الحرب والقلق وإمكانيات التعدي على الجميع بوسيلة أو أخرى، كان ضرورياً أن نضع قواعد منهجية تتصل بمرحلة العدالة الانتقالية في سياق الإجابة عن الأزمة المزمنة في سوريا.

أولاً - هناك إجماع سوري ودولي على وجود أحداث فظيعة تشي بالعنف، الذي يفصح عن نفسه ها هنا. والمفارقة هنا تكمن في أن النظم العربية المعنية كانت تُنكر القول بوجود أزمات ومشكلات في بلادها، أما ما كانت تقوله فيستند إلى laquo;أن الخارج هو من أنتجها أو لفقها ووطنها في الداخل المذكور، مصرياً كان أم تونسياً أم سورياً... أي أن هذه البلدان لم تكن بالأساس تعاني أي مشكلات! هذا من طرف أول، أما من طرف ثان فإن وجود منهج تاريخي علمي يمثل، والحال كذلك، شرطاً للبحث في ما نحن بصدده، ومن شأن هذا المنهج أن يُظهر ضرورة استخدامه التاريخية، التي تسمح لنا أن نعلن عن أن المراحل السابقة (من 30 إلى أربعين عاماً) كانت تاريخاً للفساد والإفساد والاستبداد الذي أنهك الشعوب العربية، حيث كانت العدالة هي المغيّب الأول. نعم، هنا نعلن المبدأ الذي يضبط منهجنا التاريخي النقدي متمثلاً في مقولة القطيعة التاريخية.

وعندئذ نكون قد أعلنا أن المرحلة المنصرمة التي مرت، ينبغي وضعها بين قوسين تعبيراً عن تشككنا في ما كتب عن العدالة وعن العدالة الانتقالية خلال مراحل ما بعد الصراع. وهذا بدوره يدعونا للعودة إلى مفهوم القطيعة التاريخية، كي نصل إلى ضرورة المطالبة بما بعد مرحلة الفساد والاستبداد. وفي هذه الحالة يصبح ضرورياً اللجوء إلى مجلس الأمن الدولي للمساعدة في تحديد وضبط ومراقبة عملية العدالة الانتقالية. فمن مهمات هذا المجلس فعل ذلك حرصاً على احترام العدالة.

أما الخطوة الثانية فتكمن في تحقيق الشروط التالية، وهو تفكيك laquo;الدولة الأمنيةraquo; التي ظهرت في البلدان العربية بدرجة أو أخرى، وقد أعلنا فيما سبق أن البلدان الثلاثة، تونس ومصر وسوريا، تقع في الصدارة من العمل المذكور، وأن تفكيك الدولة الأمنية يأتي في المقدمة، وهذا أمر ينطلق من أن تحقيق العدالة الانتقالية إنما هو المطلب الأول في الملف السياسي الذي يتضح موقعه كضابط لبقية الملفات المطروحة في قضية العدالة الانتقالية. بل هو ملف الملفات. وحيث يكون الأمر كذلك نضع يدنا على ما يدخل في ملف الدولة الأمنية، وهو الجيش، وذلك بإعادة قراءة عناصر تلك الدولة.

لقد تحدثنا عن ملفين اثنين حتى الآن، الدولة الأمنية والجيش، لكننا في واقع الأمر نجد أنفسنا أمام صيغة واحدة من الملف الأول الذي يظهر هنا أمناً وجيشاً. أما الملف الثاني فيظهر بصيغة إعادة بناء الاقتصاد الوطني، الذي جرى تدميره بدرجة أو بأخرى. لقد أعلنت منظمات مالية أن إعادة بناء سوريا تحتاج إلى كتلة مالية ضخمة تتجاوز سبعمائة مليار دولار. ومن هنا فالملف المالي لإعادة بناء سوريا لا ينفصل عن الملف الأول، ذلك أن إعادة بناء البلد إنما هي عملية واحدة بشقين؛ فالبناء يحتاج السلم والأمان، إلى جانب الكتل المالية التي تتحول إلى شوارع وطرق وأبنية ومؤسسات.

إن مرحلة إعادة بناء العدالة محورها هو الإنسان البنّاء، وبوصفه أثمن رأس مال يملكه أي بلد في الدنيا.