خيري منصور

عندما شَطَرْت الحرب الباردة العالم إلى قطبين متصارعين، كان هناك من يتطلعون إلى منطقة وسطى رغم محدودية القوة . وأحياناً يُصور الراديكاليون السياسة كما لو أنها من نقيضين لا ثالث لهما، فإما يميني أو يساري، وإما معتدل أو متطرف، والحقيقة ليست كذلك، لهذا فإن ما يسمى الواقعية السياسية مساحة مرنة وقابلة للتمدد والانحسار تبعاً للنوايا .

وإذا كان الأدب قد عثر أخيراً على من يوسّعون مصطلحاته، بحيث يكون هناك واقعيات عدة وليس واقعية واحدة، فإن السياسة أولى بذلك، لأن الخيانة الوطنية قد تجد من يُدرجها في خانة الواقعية، إذا كان الخلل في معادلة القوة كبيراً، وثمة أخطاء بل خطايا اقترفت باسم هذه الواقعية، لأن حُجة الواقعيين ldquo;جداًrdquo; هي وجود رومانسيين حالمين يتعاملون مع الواقع بالرغائب فقط، وينكرون الوقائع إذا لم تتناغم وتصوراتهم الوردية، ونخشى إذا قُدر لهذه الثنائية أن تصل أقصاها أو يصبح الإنسان مُخيراً بين أن يقلد السلحفاة أو النسر وكأن المسافة بينهما فراغ وعدم، والحقيقة غير ذلك تماماً، لأن السماء كما الأرض بها متسع للفراشة والفيل، وبالطبع فإن الواقعيين جداً في السياسة لا يعترفون بالتراجيديا أو الخسارة النبيلة التي تدفع الإنسان لكي يقاوم من يغتصب أرضه أو عرضه بمعزل عن حسابات الربح والخسارة .

وما حظي به الأدب من توسيع للآفاق وإعادة نظر في المصطلحات لايزال محظوراً على السياسة، بحيث يصعب أن نجد سياسياً يقول ما قال غارودي مثلاً إن الواقعية بلا ضفاف . وقد يندرج في نطاقها أناس نظنّ بأنهم يُحلقون خارج مدار الواقع وجاذبيته .

ما من حدود حاسمة بين مصطلحات قُدمت إلينا كما لو أنها في حالة حرب، ففي كل واقعية قدر من الحلم، وفي كل رومانسية قدر من الواقعية، وبغير ذلك كان العالم قد استمر بانقسامه منذ بداية التاريخ حتى هذا الصباح بين نقيضين .

إن للواقعية السياسية حدوداً قدر تعلقها بمصائر أوطان ومجتمعات، وتجاوز هذه الحدود يعني بالضبط أن كل شيء قد بات مباحاً وقد تكون مثل هذه الذرائع وراء تجارب سياسية مُصنّفة في باب الخيانة كما حدث في جمهورية فيشي التي أعلنها المارشال بيتان أثناء احتلال الألمان لبلاده في أربعينات القرن الماضي .

وكما أن للواقعية السياسية حدوداً في هذا السياق الوطني، فإن الرومانسية إذا عاشت في ظلال النشيد فقط، قد تجد نفسها أشبه بالنعامة التي غرزت رأسها في التراب تاركة جسدها كله هدفاً للسهام أو الرصاص .

ولم يسبق أن اُسْتِخدم مصطلح الواقعية السياسية كما هو الحال اليوم، فما إن يُعلن المرء تصوره حتى يجد من يقاطعه قبل أن يكمل: كُن واقعياً وكأنّ معنى الواقعية الوحيد هو التأقلم مع الأمر الواقع سياسياً كان أم اجتماعياً، ولو صدقنا أن هذه الموعظة هي الحل والخلاص، لما تحركت البشرية قيد أنملة منذ الكهف .

فالتغيير ومجمل التطور الخلاق في حياة الإنسان هو تجاوز لشروط الواقع، ورفض التأقلم معه وكأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان .