عبد العليم محمد
قد لا نستطيع أن نفهم تلك الخصومة الصريح منها والمضمر التي تحملها قوي الإسلام السياسي إزاء مؤسسات الدولة الوطنية والحديثة وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة والرئيس الذي ينتمي إليها وإليه أي الجماعة والحزبrlm;
إذا ما اقتصرت النظرة علي الوضع الراهن والظروف الراهنة, وإذا ما اعتبرنا أن هذا العداء وتلك الخصومة التي تظهرها قوي الإسلام السياسي لمؤسسات الدولة هي لحظة استثنائية أو طارئة أو مفاجئة.
كانت إشكالية النهضة في فكر الجيل الأول من روادها مع بداية القرن التاسع عشر متمثلة في فكر رفاعة رافع الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي في تونس وجمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده وغيرهم من رموز هذا الجيل, هي التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية الحديثة, وأن الفجوة بين الغرب والعالم الإسلامي ليست فجوة جينية أو طبيعية, وإنما هي فجوة معرفية وتنظيمية وثقافية وعلمية, يمكن تجاوزها; إذا ما صدقت النية وتوفرت الإرادة, وكانوا يرون أن الإسلام يمتلك قدرة وإمكانيه علي التجدد والتجديد عندما تتوفر البيئة المناسبة للاجتهاد والتأويل.
تمكن هذا التيار النهضوي المؤسس من التمييز بين ثقافة الغرب والبعد المعرفي والتنظيمي والعلمي في هذه الثقافة وبين السياسات الغربية الاستعمارية.
تزامنت هذه الموجه الاصلاحية مع ظهور معالم الإصلاح إن في الخلافة العثمانية أو في مصر, وتدعم نفوذ هذا التيار وإنجازاته بدعم الدولة الوطنية التي كانت بحاجة لتسويغ الإصلاحات من الناحية الشرعية والدينية.
وقد تمكن هذا التيار من تشكيل منظومات فكرية متسقة ومتجانسة, بصدد عدد كبير من القضايا التي تعترض مسيرة الإصلاح الديني والسياسي مثل التعليم والتمثيل النيابي والدستوري, وقبول الثقافة الغربية الوافدة دون التحصن بمقولات الهوية والانعزال والخوف, من فقدان الذات, بل علي العكس كانوا يرون أن تأكيد الذات الحضارية لا يتأتي إلا عبر تمثل واقتباس الحضارة الغربية; استرشادا بما قام به المسلمون في العصور الوسطي عندما كانوا أول من ترجم أرسطو إلي اللغة العربية وتمثلوا التراث الفلسفي الإغريقي والهيليني والذي انتقل لأوروبا فيما بعد.
ورغم الطابع الرمزي للخلافة الإسلامية في اسطنبول, إلا أن انهيارها فعليا قد أفضي إلي ردود فعل واسعة في العالم العربي والإسلامي وبدأت دوائر عديدة من المفكرين الإسلاميين في البحث عن إعادة بناء الخلافة في بلد آخر غير تركيا والبحث عن خليفة آخر غير تركي, منيت هذه المحاولات بالفشل وترتب علي ذلك عمليا تجذر أسس وبني الدولة الوطنية, وكان لهذه التحولات مردودها في الواقع الثقافي حيث تم فك الارتباط بين تيارات الإصلاح في الدولة العثمانية وتيارات الإصلاح في مصر والعالم العربي, وفقد المصلحون من هذا الجيل المظلة الكبيرة التي كانوا يستظلون بها, وارتد بعضهم الشيخ رشيد رضا عن النزعات الإصلاحية التي كانوا يؤمنون بها, ولحقت بهم تيارات الأصالة والذاتية الإسلامية والعودة للأصول ورفض الغرب والدولة الوطنية في آن معا, وذلك خلال العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين وهي تيارات هدفت إلي حفظ الموروث والتمسك بالهوية والأصالة ومقاومة الوافد والجديد في مختلف مناحي الحياة, ظهرت آنذاك الحركة السلفية وجماعة أنصار السنة والجمعية الشرعية وحركة الإخوان المسلمون(1928) والشبان المسلمين في مصر, وحركة الشبيبة الإسلامية بمدن الشام وجمعية العلماء بالجزائر والرابطة الإسلامية.
ساهم ظهور هذه التيارات وتجلياتها التنظيمية في تغيير المشهد الثقافي برمته في مصر والأقطار العربية المهمة, حيث أدار المشهد الثقافي آنذاك ظهره لتيارات التجديد والإصلاح والتوفيق بين الإسلام والعصر, وأنصت لتيارات الأصالة والهوية والعزلة عن العصر.
وترتب علي هذا الانقلاب عمليا إعادة النظر في كافة المقدمات التي أسس عليها تيار الإصلاح والتجديد الأول مساهماته الفكرية والسياسية في الإصلاح, فلم تعد مقاصد الشريعة هي الأساس في تمثل الاقتباس والتأويل, بل الشريعة ذاتها وأحكامها, ولم تستمر التفرقه والتمييز بين الثقافة الغربية والسياسات الغربية, بل أصبح الاثنان وجهين لعملة واحدة, ولم يقتصر الهجوم علي الغرب علي الاستشراق بل امتد ليشمل الغرب عموما بكافة عناصره, بل وأصبحت الدولة الوطنية التي حاولت أن تحيد الدين وأن تبعده عن المجال العام أو تفصل بينه وبين الدولة, أصبحت هذه الدولة دولة ذات طبيعة استشراقية علمانية غريبة عن المجتمع, وعن الأصول التي تستند إليها هذه التيارات وباستكمال مقومات مشروع الدولة الوطنية الحديثة وتبنيها القومية الاشتراكية والليبرالية ومختلف الصيغ والأيديولوجيات الحديثة, استمر النقد للغرب حضاريا وثقافيا واستمر نقد الدولة الوطنية التي استوحت مبادئها وجذورها من الثقافة الغربية وحذت حذو الدول الغربية الحديثة.
يضاف إلي هذه الخلفية التاريخية للعلاقة بين الإسلام السياسي والدولة الوطنية عجز وقصور الدولة الوطنية عن تعزيز المشاركة والديمقراطية والفشل في تحقيق التنمية المستدامة وعدالة التوزيع إذا ما استثنينا الحقبة الناصرية والتهميش الذي مارسته إزاء العديد من الفئات, وهو الأمر الذي أفضي بهذه الفئات إلي الانخراط في الشبكات الاجتماعية والثقافية التي بادر الإسلام السياسي إلي بنائها مع انسحاب الدولة جزئيا وتخليها عن حماية الفقراء.
من الممكن القول أن الدولة الوطنية لم تتبني نهجا ناجحا في التعامل مع هذه التيارات واكتفت بالتعامل الأمني العنيف, كما يمكن أيضا توجيه ذات النقد لهذه التيارات أنها لم تعرف كيف تدير علاقاتها بالدولة الوطنية وأنها عمقت الشقاق والانقسام الذي أفضي إلي المشهد الراهن.
علي ضوء ما سبق يمكن القول أن عداء وخصومة الإسلام السياسي مع مؤسسات الدولة الحديثة الوطنية وفي مقدمتها القضاء والأزهر الشريف والمخابرات والقوات المسلحة ليس طارئا في رؤية هذه التيارات لأن هذه الرؤية تتجاوز الحدود الوطنية ولها امتداداتها خارج الدولة الحديثة ويراودها حلم ووهم استعادة الخلافة الإسلامية.
التعليقات