عبدالله بن بخيت


جاءت الأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام على أساس توحيد الألوهية. كانت البشرية تكثر من آلهتها وتتوسل الطبيعة. وهذا التوحيد كان بمثابة إنقاذ الإنسان من التخبط والجهل والخرافات. لكن هذا التوحيد خاص بالإله المعبود دون سواه. إذا هبطنا دون ذلك سنجد أمامنا أولا الإنسان. هذا الإنسان متنوع ومتغير ومتلون. لا يمكن أن يكون مثالياً مهما بلغ من النقاء. لذا فإن من فضائل الحضارة الغربية وعظمتها أن أسقطت اسطورة الإنسان العظيم، لكن الإيمان بالتعظيم في ذهن إنسان العالم الثالث لوثت كل سلوكه. في الكورة مثلا تلاحظ أن كل جماهير نادي تتوقف عند اللاعب الأسطورة وفي الفن تتوقف عند الفنان الخالد وفي الأدب عميد الأدب وفي الشعر أمير الشعراء. من سخرية المواقف أن عقد قبل سنوات قليلة مؤتمر أدبي بحث فيه المؤتمرون مرشحاً لإمارة الشعر.

رغم أن لبنان قدمت عددا كبيرا من الفنانين المميزين لكن لا يعلى على فيروز. ففيروز لها مكانة سماوية لا تدانيها مكانة. أصبحت تابو. لا يمكن لأحد أن ينتقدها. أتذكر أن أحد الكتاب اللبنانيين كتب مرة عن ترجمة أعمال بعض الفنانين إلى الفرنسية وكشف عن أسماء فنانين ووصف كل واحد منهم بالفشل وعندما وصل إلى اسم فيروز قفز على كلمة فشل تاركا فراغا في وصف ما حدث لفيروز في فرنسا وذهب للذي بعدها.

مع الأسف لا يبقى تعظيم هذا الفنان أو ذاك اللاعب في حدود فنه وصنعته ولكنه يتجاوز ليصبح مقدس في كل شيء. ففي مثال فيروز لا أحد يتحدث عن أميتها ولا أحد يتحدث عن غيابها الكامل عن الحوارات والأحاديث المثقفة في الإطار الثقافي الذي حاول المثقفون إسباغه عليها. فالقدسية التي وضعوها فيها حالت دون الإشارة إلى معايبها وهي ليست معايب تمس قدراتها الفنية، ففيروز نفسها لم تقدم نفسها كداعية دينية أو سياسية، هي في النهاية مطربة صوتها جميل وانتقاؤها لأعمالها مميز بعد ذلك لا قيمة لها إلا في حدود إنسانيتها. فعندما تعلن اليوم أنها تصف إلى جانب حزب الله وبشار الأسد يفترض ألا يدهشنا او يصيبنا بالذهول فالأمر شخصي ومصالح وانتماءات لكن ذهنية الدكتاتور التي تستوطن في الثقافة العربية وبين المثقفين حصرا تقوم على قاعدة اما (كل شيء أو لا شيء). ففيروز عظيمة ومثقفة ورائعة إلخ. عندما يبكي احدهم على فيروز وموقفها المخجل من القضية السورية هو في الواقع يبكي على اهتزاز صورة الدكتاتور الذي تستوطن ذاته.

الحرب في سوريا والربيع العربي سوف تظهر نتائجه. سنراه انفجارات داخل الوعي الثقافي العربي. سقط الدكتاتور والزعيم الأوحد وسوف يسقط موروثه الخالد في النفوس.

لا أعرف كيف اعبر عن موقفي المبهج من موقف فيروز. فبقدر ما أرجو ان تسقط الثورة السورية الدكتاتور السياسي ارجو ان تسقط أيضا الدكتاتور المستوطن في داخلنا. فيروز مجرد مطربة مثلها مثل أي مطربة اخرى. مواقفها السياسية ومواقفها الاجتماعية ومواقفها الفكرية والدينية مسائل تخصها. وبالمقابل من حق الصحف والناس نقدها بل وإدانتها إذا تطلب الأمر ذلك. عدد من كبار الكتاب في العالم مثل هامنجوي وازرا باوند وبرخيس وتي اس اليوت مدانون من الناحية السياسية والفكرية بل إن ازرا باوند دين بالفاشية، وبرخيس كانت ميولة امبريالية لا يخفيها. هذه الميول المدانة لم تقلل من مكانة هؤلاء الإبداعية.

تقرأ من يقول كيف تسقط فيروز هذه السقطة. هذا التعبير يدل على أنه وضع فيروز في مكان متعال مقدس. لم يصدق أن تأخذ هذا الاتجاه او ذاك. روح التعظيم لا تكف مع الأسف عن العمل في داخلنا.