حازم صاغية

في المنتدى الاقتصادي العالمي الأخير المنعقد في دافوس، صرف وزير خارجيّة الولايات المتحدة الأميركية جون كيري 37 دقيقة ليشرح كيف أن بلاده لم تتراجع عن التزاماتها في الخارج، وكيف أنها لا تزال متورطة في هموم العالم وفاعلة فيها. لقد كان من الواضح تماماً أن كيري يرد في خطابه على انتقادات تنهال على واشنطن من كل حدب وصوب، وتصدر عن الأصدقاء قبل الخصوم. ولئن تحدثت في المنتدى نفسه وزيرة الخارجيّة الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، مؤكّدة الفكرة ذاتها التي دافع عنها كيري، فإن الكلمة التي ألقاها السيناتور الجمهوري المعارض جون ماكين لقيت درجة أعلى بكثير من التصديق. فالأخير، تبعاً لما هو معروف عنه وعن صلابته في خطه السياسي، قال العكس تماماً لما قاله الوزير والوزيرة، مشدداً على أن وزن بلاده في تراجع وضمور، وأن هيبتها في انكماش متعاظم.

والحال أن الأسباب الظاهرة التي تحمل على تصديق ماكين أكثر مما تحمل على تصديق كيري وكلينتون كثيرة، آخرها تراجع واشنطن عبر صفقة مع الروس عن توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري بعد انكشاف استخدامه السلاح الكيماوي ضد شعبه، وكذلك حوار أميركا والدول الأعضاء في مجلس الأمن زائداً ألمانيا مع إيران حول الملف النووي، وذلك على نحو أثار قدراً كبيراً من النفور والاستياء، فضلاً عن الريبة، لدى أوثق حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط.

بيد أن ما يحمل على تصديق جون ماكين أكثر من تصديق جون كيري أعقد من ذلك وأبعد مدى. بل ربّما كان الأمر يتصل، على نحو أو آخر، بموضعة السياسة الخارجية التي تنتهجها إدارة أوباما ضمن سياق أوسع. ذاك أنه، وبالعودة قليلاً إلى الوراء، يتبدى أن الولايات المتحدة الأميركية لم تنجح بعد في الاستقرار على فلسفة لسياستها الخارجية في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة. وهذا مصدر التخوف من الخفة والارتجال لدى سيد البيت الأبيض، بل من عجزه عن الوفاء بتعهدات والتزامات أطلقها من دون أن ترتكز إلى أيّ تصوّر أعمق أو أشمل.

في هذا السياق، يمكن التوقّف عند لحظات كبرى ثلاث تتابعت في السياسة الخارجية الأميركية منذ مطلع التسعينيات:

-فمع الرئيس الجمهوري جورج بوش الأب الذي بنى التحالف الدولي الشهير لتحرير الكويت وطرد القوات العراقية منها، ثم مع الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون الذي قاد التدخل الأطلسي في يوغسلافيا السابقة ضد صربيا ميلوسوفيتش، استمرت الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأميركية في الحرب الباردة، وإنْ أتاح انهيار الاتحاد السوفييتي وضعف القيادة الروسية التي ورثته (ميخائيل غورباتشوف وبوريس يلتسين) هامشاً أوسع لحركة واشنطن ومبادرتها. هكذا حلّت الاستمرارية، ومعها القليل من التجديد، محل النظرية الجديدة التي لم تُكتب لها الولادة.

-أما مع الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن، ومن خلال حربيه المتلاحقتين في أفغانستان والعراق بعد جريمة 11 سبتمبر 2001، فحدث انقلاب كامل عن معادلات الحرب الباردة وقوانينها السائدة. فلقد حلّ مبدأ العمل العسكري الأحادي، وأحياناً الاستباقي، فيما طوي مبدأ التحالف والتشاور والتنسيق مع الحلفاء الأطلسيين في أوروبا الغربية. ولا نزال نذكر التسمية التي أطلقها دونالد رامسفيلد، وزير دفاع بوش الابن، حين وصف أوروبا بـlaquo;القديمةraquo; رداً منه على المعارضة الفرنسية- الألمانية للحرب الأميركية في العراق. لكنّ هذا التحول الكبير، بل الانقلابي، الذي واكبته النظريات البسيطة والحماسية لـlaquo;المحافظين الجددraquo;، إنما حصل أساساً تحت وطأة الانفعال بضربة 11 سبتمبر، من دون أن تسبقه أو تصحبه نظرية متماسكة ومسهبة في سياسة أميركا الخارجية وفي علاقتها بالعالم ككل.

-ومع الرئيس الديمقراطي الحالي أوباما كانت اللحظة الثالثة التي لم تنقض بعد. والحال أن اللحظة هذه لم تمتلك، هي الأخرى، أية نظرية متماسكة في السياسة الخارجية ما خلا كونها رد فعل على سياسات بوش الابن المتهورة. فما دام أن الأخير اعتمد التدخل الأحادي والاستباقي، بات المطلوب الابتعاد عن كل تدخل يتعدى استخدام الطائرات من دون طيار في أفغانستان وباكستان واليمن وعدد من الدول التي تنشط فيها تنظيمات laquo;القاعدةraquo;. وما دام أن بوش الابن تجاهل التنسيق والتشاور مع الحلفاء، بات النهج المعمول به حالياً يقوم على قتل كل خطوة عملية أو تنفيذية بتنسيق وتشاور لا ينقطعان.

وما من شك في أن عوامل عدة ومختلفة في طبيعتها لعبت دورها في تعزيز الوجهة الأوبامية هذه، وهي عوامل كثر الحديث عنها في السنتين الأخيرتين: من الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة وسائر العالم إلى تعاظم المصالح الأميركية في آسيا على حساب مصالح أميركا في الشرق الأوسط والخليج، ومن الذاكرة المريرة التي خلّفتها حربا أفغانستان والعراق، لاسيما الثانية، إلى التعافي النسبي للقوة الروسية في ظل فلاديمير بوتين، ومن ثم تزايد الاضطرار إلى أخذ روسيا ومصالحها في الحسبان. بيد أن ذلك كله، ومعه الخلفية السلمية لأوباما والمحيطين به (وزوجته)، لا يقلل من أهمية الحاجة الماسة إلى تطوير نظرية للسياسة الخارجية، بحيث لا تكون مجرد رد فعل على 11 سبتمبر أو على سياسات بوش الابن، بل ترقى إلى ما كانته نظرية laquo;الاحتواءraquo; الشهيرة في زمن الحرب الباردة.

وإنما بسبب هذا الغياب وانعدام التماسك، نفهم اليوم لماذا تكثر في واشنطن نفسها تلك الانتقادات الموجهة إلى إدارة أوباما من زاوية افتقارها إلى الرؤية والمخيلة، فيما يتسع التململ في أوساط حلفاء أميركا الشرق أوسطيين المتخوفين من سياسات قد تكون ساذجة وغير مدروسة أو غير محسوبة بعناية. ولهذا السبب نفسه نفهم أيضاً لماذا يميل العالم، في دافوس وفي غير دافوس، إلى تصديق جون ماكين أكثر من ميله إلى تصديق جون كيري.