توفيق رباحي

في منتصف تشرين الأول/اكتوبر الماضي كتبت في هذه المساحة أن (الفريق آنذاك) عبد الفتاح السيسي هو رئيس مصر المقبل. بسرعة جاء من ينفي ويلغي تلك القراءة، مع زملاء وأصدقاء قالوا: لا يمكن.. مصر تختلف، وغيرها من الحجج.
نحن الآن أمام مصر يرأسها (المشير) عبد الفتاح السيسي. وصل إلى الرئاسة بانتخابات تذكّر بما كان يجري في عهد طغاة وفاسدين مثل حسني مبارك وصدام حسين وحافظ وبشار الأسد، حتى لو لم تكن مزورة من حيث النتائج.
ربما لم يقم السيسي بانقلابه على الرئيس محمد مرسي ليكون هو الرئيس البديل، حتى لو صدّقنا في المطلق تقارير الـ «صانداي تلغراف» البريطانية (أمس الأول) التي قالت إنها حصلت على ما يفيد أن الرجل تآمر على الحكم منذ 2010. بعبارة أدق، هو أقنع قادة الجيش ليكونوا على أهبة الاستعداد للانقضاض على الحكم إذا ما دعت الضرورة، وعدم التسامح مع ثورة (فوضى من وجهة نظره) في بلد تعداده 90 مليون نسمة وموقعه حساس وأدواره متعددة ومعقدة.
لكن عندما اقترب الرجل من كرسي الحكم، اقتنع بأن لا أحد غيره أفيد لمصر غيره.
هناك أسباب موضوعية وأخرى ذاتية ـ نفسية تضع رجل في مثل حال وظروف السيسي في موقع الاقتناع بأن عليه أن يكمل ما قام به.
موضوعيا، هناك جزء من الرأي العام استاء في زمن قياسي من حكم الرئيس محمد مرسي، مصحوبا ذلك بآلة إعلامية تجاوزت كل حدود الأدب والحياء في تمجيد هذا الطرف وذم ذلك.
وهناك البديل غير الموجود، لا شخصيات تنافسه ولا إعلام يحاسبه ولا أحزاب تعارضه ولا مجتمع مدني يراقبه.
كما هناك الاعتقاد السائد في المنطقة كلها بأن الجيش هو الجهة الوحيدة المنظمة والقوية والقادرة على فرض النظام الانضباط والحفاظ على الوطن. يقابل هذا غياب ثقة في المدنيين، وسخرية واضحة من دورهم وقدرتهم على إدارة الأشياء بنجاح. هذه قناعة منتشرة داخل الجيوش ويكرسها بعض المدنيين من نخب سياسية وثقافية وإعلامية، كلما برزت أزمة اشرأبت أعناقها إلى مقار وزارات الدفاع.
مصر تشكل نموذجا حيًّا كونها تعيش منذ الصيف الماضي ذروة هذه الحالة المزاجية. إذ عندما استاء قطاع من الناس من حكم الإخوان المسلمين، اتجهت أنظارهم نحو الجيش مانحين إياه ضوءا أخضر ليتصرف، ففعل بطريقته التي لا يحسن غيرها.
تتقاطع هذه الحالة مع قناعة ترسخت حديثا لدى القادة العرب مفادها أن الولايات المتحدة بالخصوص والغرب عموما، قد يبيعونهم بثمن بخس كما فعلوا مع حسني مبارك وزين العابدين بن علي ومعمر القذافي. فبات من الواجب عليهم حماية أنفسهم ومصالحهم بطريقتهم وبالتعويل على أنفسهم، مع الاطمئنان للوجه الآخر للعملة (المشجع) والمتمثل في أن هذه الولايات المتحدة وهذا الغرب لن يتدخلوا لمنع انقلاب يحافظ لهم على استمرار مصالحهم ولا يهددهم استراتيجيا وإن اختلفوا معه تكتيكيا.
لا تكتمل هذه الصورة المعقدة المتداخلة عواملها داخليا وخارجيا، من دون وقوف سريع على الجوانب الذاتية فيها، لنقل المزاجية والنفسية. جاء السيسي إلى العمل العام متأخرا 50 أو 60 عاما، لكنه استدركها وتصرف بمنطق نصف القرن الماضي مع بعض الفروق التي لم تردعه. منها أنه صبر على الكرسي أحد عشر شهرا كانت بمثابة فسحة إضافية من الزمن للسيطرة الأفضل على الأمر. ومنها أيضا أن أسلافه مثل عبد الناصر والقذافي وحافظ الأسد تصرفوا في ما يشبه الظلام ومن دون أن يأخذوا في الحسبان، أو يخشوا، عامل المحاسبة العابرة للحدود.
اليوم، في هذه الأيام والشهور، يخطئ من يعتقد أن السيسي تجرأ على بدء مخاطرته في الثالث من تموز/ يوليو الماضي ليتركها في منتصف الطريق لشخص (أو حتى جماعة) غيره. هناك عاملان في تفسير هذه العقلية، الأول أن السيسي، وأي قائد عربي في مكانه وظروفه، لا يثق في أن من سيخلفه أو يتقاسم معه الحكم، أهل لذلك. ألم نقل أعلاه أن العسكر في هذه المنطقة يؤمنون بأنهم الأفضل والأقوى والأشطر؟ يضاف لذلك عامل طرأ حديثا، وهو عامل الحماية الشخصية والمصير الفردي. لا يمكن أن يثق السيسي بسهولة في أن أي حاكم، أو مجموعة حكم بعده، سيوفر له الحماية أمام الملاحقات القضائية الدولية المحتملة.
اليوم هناك محاكم عابرة للقارات. صحيح إجراءاتها صعبة ومعقدة ومكلفة ومقرفة وطويلة، لكنها موجودة. وقد أُريقت في مصر دماء كثيرة منذ الصيف الماضي، يكفي أن واحدا من ذوي الضحايا يحرك دعوى في عاصمة أوروبية لتنكد على السيسي ما سيتبقى من أيامه باعتباره المسؤول عسكريا وإداريا وأخلاقيا.
ومن شاء أن يراجع دفتر التجارب فهي موجودة، من السوداني عمر البشير إلى الجزائري اللواء المتقاعد خالد نزار، مرورا بالليبيري تشارلز تايلور واليوغسلافي سلوبودان ميلوزيفيتش وغيرهم من قادة جيوش في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والبوسنة والهرسك.
هل بعد كل هذا يترك السيسي كل شيء وينصرف إلى بيته كأن شيئا لم يكن؟
مسكين من صدّق طرفة الزهد في الحكم والتضحية الشخصية في سبيل الوطن وغيرها من عبارات القاموس المشترك بين الطغاة والذي، للأسف، ما زال ينطلي على كثيرين.