هانى شكرالله

ولهذا الأمر حكاية لو كتبت بالإبرعلى آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر». تتخلل هذه العبارة البديعة صفحات ألف ليلة وليلة، على لسان شهرزاد وعلى ألسنة العشرات من أبطال حكاياتها.


آماق جمع مأق، وهو طرف العين الذى يلى الأنف، ومجرى الدمع، فمن الخصائص المدهشة للسان العرب أن يحوى أسما لتلك البقعة متناهية الصغر من الجسد البشري، ولكنه أسم خبئ فى الذاكرة الجمعية، فوجب التنويه.

انتهت الانتخابات الرئاسية وأكثر المصريين يبتهجون فرحا بانتصار ساحق للمشير عبد الفتاح السيسي، وهو ما توقعته فى مقالى فى هذا المكان الأسبوع الماضي، وصادف نشره على صفحات «الأهرام» صبيحة يوم طغت عليه الولولة ولطم الخدود على ضعف الإقبال على مراكز الاقتراع من قبل نفر من الإعلاميين المشتعلين حماسا فى تأييد المشير. غير أن دواعى الابتهاج شديدة الاختلاف مع ذلك. قاسمها المشترك الأعظم هوالاحتفال باستعادة استقرار صار منشودا بإلحاح بعد أكثر من ثلاث سنوات من ثورة جاءت بأمل مصر جديدة قوامها الحرية والعدل والكرامة، ولكنها بقيت عاجزة عن تحقيقه، فلم يبد من وراءها غير فوضى وعنف وانهيار أمنى واقتصادى.

بين هؤلاء من يحتفى باستقرار قوامه القهر والظلم والخضوع والخنوع، وأخرون ينشدونه سبيلا لتحقيق ولو قدرا من استحقاقات الثورة، على أيدى السيسى إن لم يكن على أيدى الثوار، وبإرادة الحاكم وليس بإرادة الشعب، ومن بينهم تلك السيدة الأسيوطية التى ضمنت بطاقتها الانتخابية رسالة موقعة للسيسى تقول فيها: «وثقت فيك ووضعت مستقبل أولادى بين يديك». وظنى أن ذلك القسم من ناخبى السيسى هو الأكثرية الساحقة، ولكن يبقى أن القسم الآخر هو الأعلى صوتا، والأكثر قوة وبأسا ونفوذا، داخل أجهزة الدولة وخارجها.

ولم يعد هؤلاء يخفون مقاصدهم، كما لا يخفى على أحد الدعم المتحمس للسيسى من أساطين الحزب الوطنى ورجال الأوليجاركية المباركية ووجهاء الريف المباركيين، وبصرف النظر عن تقدير الدور الفعلى لذلك الدعم فى تحقيق الفوز الساحق للمشير، فقد كان واضحا أن أولئك حرصوا تمام الحرص على أن يدرك الجميع، وفى مقدمتهم السيسى نفسه، أن أياديهم بيضاء على رئاسته، تحسبا لقبض الثمن. ولعلنا نشير أيضا إلى صرخات علت مرارا وتكرارا خلال الأسابيع الماضية من بين بعض أخر من مؤيدى السيسى يحذرون وينذرون من مسعى المباركيون الاستيلاء على رئاسته، ومن مخاطر استعادة نظام مبارك.

الاستعادة المباركية بدون مبارك وإن بمباركته مطروحة بقوة إذن، أردنا أم لم نرد، وهو ما يطرح علينا ضرورة التذكير ببعض من أثار وعبر الاستقرار المباركي، وقد دام ثلاثة عقود كانت أشبه باستقرار الميت فى قبره. والواقع أن الاستبداد وحده ليس هو الإثر الأهم للعهد المباركي، وأنما التصفية الشاملة وبعيدة المدى للمجال السياسي، ولكل حياة سياسية فى البلاد، وهو ما ندفع ثمنه حتى وقتنا هذا، وهو السبب الجوهرى وراء كل من مفاجأة الثورة المصرية وإخفاقها فى تحقيق رسالتها.

تحققت تصفية الحياة السياسية فى بلادنا بالتدريج، وتداخلت فى تحقيقها عناصر عدة من بينها موسم الهجرة للنفط، واستفحال الطابع الريعى للاقتصاد المصرى وتراجع التصنيع، والمواجهة الضارية مع الإرهاب الدينى طوال عقد التسعينيات، فضلا عن التحول الأوليجاركى للحلف الحاكم وللنظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى بأسره، وقد أنتج اتحادا جهنميا للسلطة والمال، وطغمة حاكمة تشكلت، كما سبق أن كتبت فى هذا المكان، من كبار رجال دولة يمتهنون البيزنس وكبار رجال بيزنس يستحلون الدولة. لا حاجة فى نظام كهذا لمجال سياسى من أى نوع، حيث تستعوض الأجنحة المتنافسة للرأسمالية المصرية عن بسط نفوذها على الدولة من خلال المجال السياسى (أحزاب وبرلمان، الخ.) بتحالفات وصفقات مباشرة بين كبار رجال الأعمال وكبار رجال البيروقراطية، وكل مجموعة بارتباطاتها فيما وراء البحار.

فى مثل هذا النظام تتحول الأحزاب إلى ديكورات، والبرلمان إلى شيء أشبه ما يكون بغرفة التجارة، مجالا لعقد الصفقات ولتشكيل واعادة تشكيل شبكات المصالح، ولتقسيم واعادة تقسيم كعكة الدولة ومواردها بين المحاسيب وأتباعهم، من القمة إلى القاعدة. ولعل شخير النواب أثناء نقاش الأمور السياسية وصحواتهم المنتشية وهم يتزاحمون ويتدافعون حول الوزراء بوريقاتهم الصغيرة، لعل فى هذه الصورة المعهودة خير دليل على ما نقول.

للاستقرار المباركى خصائص أخرى عديدة يطول شرحها، لعلنا نسترجع منها ملمحين بارزين فى ضوء المساحة المتاحة لدينا هنا. أولهما هو ما يمكن أن نطلق عليه «القمع الانتقائى»، وقد تمثل فى قبضة استبدادية لينة إلى حد ما فى مواجهة ما اصطلح عليه بـ«النخبة» (على طريقة «خليهم يتسلوا») ودولة بوليسية مطلقة العقال، شديدة الشراسة فى مواجهة الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب من فقراء ومتوسطى الحال، وهل ننسى خالد سعيد؟ فكان الأثر الأهم لهذه الصيغة المباركية هو إنتاج وإعادة إنتاج انفصال «النخبة» عن الناس. الثورة المصرية كسرت هذه الدائرة الجهنمية وإن لم تنج من آثارها الفادحة.

فى غياب المجال السياسى تختزل الصراعات السياسية فى صراعات عقائد، وصراعات العقائد فى ظل افتقاد المجال الأوحد لاختبارها على الأرض، أى السياسة، تتحول إلى صراعات أديان، وفى صراعات الأديان يؤول الفوز بالضرورة لمن يدعون الحديث باسم دين إلهى لا دنيوي، تدين به الأغلبية الساحقة من المصريين. ننسى أحيانا، وينسى دعاة الاستعادة المباركية أن الفكر الدينى والمؤسسات الدينية، رسمية وغير رسمية، حكومة ومعارضة، شكلت إحدى الدعامات الرئيسية للاستقرار المباركى. هل يمكن استعادة المباركية؟ ليس بمقدورى أن أجزم بما قد يحمله المستقبل، ولكن أشك.

&