عبدالله بن بجاد العتيبي
&

الصدمة الكبيرة التي سببها استيلاء «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام»، المعروف باسم «داعش» على الموصل ثاني أكبر مدن العراق بكل سهولة ويسر هي صدمة مستحقة لأنها تطرح من الأسئلة أكثر مما تقدم من إجابات.

أول هذه الأسئلة هو سؤال عمن نفّذ العملية العسكرية؟ داعش عاجزة لوحدها أن تفعل ذلك، وهي قد حظيت بمشاركة من بعض العشائر السُنية في غرب العراق تلك العشائر التي قرر رئيس الوزراء نوري المالكي محاربتها ومحاربة حراكها السلمي الطويل، وألغى كل أدوارها وبطولاتها السابقة كصحواتٍ في محاربة تنظيم «القاعدة» في العراق بنسخه المتعددة، إذن «داعش» شاركت مع غيرها في عملية مشتركةٍ، ولكنّها أخذت الصيت الإعلامي نظراً لخبرتها في التعامل مع الإعلام، التي ورثتها عن تنظيم «القاعدة»، كما تحدثت بعض التقارير عن مشاركةٍ فاعلةٍ لعناصر من بقايا الجيش العراقي قبل تفكيكه بعد عام 2003.


سؤال آخر عن الرسالة التي يمكن أخذها من هذه الصدمة؟ معلوم أن إيران لم تزل هي الراعي الرسمي لحركات الإرهاب السُنية والشيعية في المنطقة، فهل تعني هذه العملية بداية شرخٍ كبيرٍ في هذه العلاقة؟ وقد خرجت تصريحات إيرانية رسميةٌ عن دعم العراق في مواجهة الإرهاب، أم أن المقصود هو السماح لـ«داعش» بالاستيلاء على عددٍ كبيرٍ من الأسلحة والعودة لمقاتلة الشعب السوري وقوى المعارضة السورية؟ أم أنها كما طرح البعض محاولة لمنح المبرر لضرب المدن السُنية في شمال العراق بذريعة القضاء على «داعش»؟

لا أحد يستطيع أن ينكر طغيان الشعور الطائفي في العراق على الشعور الوطني، وهي سياسة إيرانية أصيلة في استخدام الطائفية كسلاحٍ سياسيٍ وعسكريٍ في أكثر من بلدٍ عربيٍ، والإرهاب في بعض تجلياته هو أحد تجليات الطائفية البشعة، وسياسة إيران في العراق منذ خروج القوات الأميركية، تتمثل في الدفع بالطائفية إلى أقصى حدودها ومحاصرة ومعاقبة المكوّن السنّي من الشعب العراقي، ومنطق التاريخ يقول إن مثل هذه السياسات التي تمّ تطبيقها بعنجهيةٍ وصلفٍ في العراق كان يجب أن تخرج حركاتٍ تتبنّى ذات المنطق الطائفي، ولكن باتجاه معاكسٍ وبأساليب تختلف عن أساليب مؤسسات الدولة التي تمّ تحويلها بشكلٍ شبه كاملٍ إلى مؤسسات طائفيةٍ.

أيضاً، هل اكتشفت إيران أن جيلاً جديداً من الإرهابيين قد تطوّر بعيداً عن عينها وبعيداً عن قيادات «القاعدة»، التي تؤويها وتحميها منذ 2001 وحتى اليوم؟ هذا الأمر إنْ حصل سيكون ثقيل الوطأة على إيران، وستنزف كثيراً سياسياً ومادياً لمحاولة إعادة الاحتواء والبحث عن عوامل تأثيرٍ تحدّ من الانفجار الإرهابي في وجهها، غير أن تاريخ العلاقة بين الطرفين يوحي بقدرةٍ إيرانية على إدارة مثل هذه الحركات والتحكم بها، ولديها من الخبرة التاريخية في التعامل مع الجماعات الصغيرة وتجييشها ضدّ دولها وشعوبها ما يؤيد هذا الاتجاه، وما التحالف غير المعلن بين تنظيم «القاعدة» في اليمن وحركة «الحوثيين» إلا مثال على ذلك.

غربياً نجحت إيران على مدى طويل في صناعة لوبي إيراني في الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية يتشكل من أكاديميين ومثقفين وكتّاب وجماعاتٍ موالية تمكنها من إسماع صوتها هناك، بل وصلت في بعض الأحيان للتأثير على القيادات السياسية، وكمثالٍ فقد عمل كثيرٌ من الباحثين على تقديم قراءة سياسية للطائفية تقول باختصار إن المسلمين الشيعة هم الأقلية الديموقراطية المضطهدة، وأن المسلمين السُنة هم الأكثرية الديكتاتورية، ومع تفاهة الفكرة حين توضع على المحك العلمي، إلا أنها وجدت آذاناً صاغيةً هناك.

سعت إيران للتفاوض مع دول الخمسة زائد واحد حول ملفها النووي وهي تعلم أن إدارة أوباما الضعيفة ستمنحها الوقت ولن تجبرها على شيء في نهاية المطاف، وستوضح الأيام المقبلة وتقدم إجاباتٍ عديدةٍ لأسئلة من مثل هل هذه الصدمة الكبرى من صنع إيران لأسبابٍ متعددةٍ استراتيجياً أم أنها نكبةٌ لمشروعها في بسط النفوذ في الدول العربية؟

فشل المشروع الإيراني في الاستحواذ على مصر من خلال حليفتها الاستراتيجية جماعة «الإخوان المسلمين»، والجماعة خسرت في دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي تخسر في السعودية وفي ليبيا وتنسلخ من جلدها في تونس والدولة الخليجية الحليفة للجماعة وهي قطر تخضع لضغوطٍ كبيرةٍ لتغيير نهجها السياسي، وتركيا تحاول استعادة توازنها بعد الانجراف خلف الجماعة بعد 30 يونيو.

تصريحات أوباما تبدو أكثر صرامةً تجاه ما يجري في العراق أكثر من تصريحاته وقراراته المتخاذلة تجاه سوريا، ولكنّها فيما يبدو لن تؤدي إلى تغيير رؤيته الانعزالية المستقرة مع التأكيد المستمرّ بأنه لن يتمّ إرسال قوات برية على الأرض، ومن هنا جاء الموقف الروسي الشامت بسياسات أميركا في المنطقة.

العدو الأول لإيران هو السعودية ودول الخليج والدول العربية فهي تستهدفها بكل سياساتها وخططها وطموحاتها في المنطقة، وهذه الدول في الوقت نفسه هي العدو الأول لتنظيمات الإرهاب ك«القاعدة» و«داعش»، ومن هنا فإن معرفة العدو المشترك يبرز زاويةً جديرةً بالاستحضار في قراءة مشاهد مضطربةٍ وأحداث متداخلة كالذي جرى في الموصل، وأدبيات «داعش» المنشورة ومقاطع الفيديو التي ينشرها موجهةٌ بقوةٍ لمعاداة السعودية ودول الخليج.

متى يمكن اعتبار ما يجري في العراق انقلاباً استراتيجياً مربكاً في المنطقة؟ سيحدث ذلك فيما لو قامت «داعش» باجتياز عشرات الكيلو مترات لا باتجاه بغداد، بل باتجاه الحدود الإيرانية واستهداف القوات الإيرانية على الحدود ولو بطريقةٍ رمزيةٍ عندها ستنفجر الطائفية وأحقادها بشكلٍ غير مسبوقٍ.

حصاد الفاشلين هو أفضل تعبير عما يجري هناك، فشل سياسة الانسحاب الأوبامية، وفشل إيران في السيطرة على العراق وعلى جماعات الإرهاب، وفشل حكومة المالكي الطائفية في كل شيء تقريباً، وكمثالٍ دالٍ في هذا السياق فإنه بعد حُلّ الجيش العراقي في 2003 جاء المالكي وصرف مليارات الدولارات لبناء جيشٍ عراقيٍ قويٍ ولكنه بطائفيته الصارخة وسوء إدارته لم يخلق سوى جيشٍ سريعٍ في الهرب وأحياناً قبل أن تبدأ المعارك!

أخيراً، فإن حكومة المالكي انتهت دستورياً في العراق، وعلى الكتل السياسية أن تتوافق بأسرع وقتٍ على بديلٍ وطنيٍ بعيدٍ عن الطائفية يكون قادراً على مواجهة التحديات الكبرى من التغلغل الإيراني في مفاصل الدولة إلى تفشي تنظيمات الإرهاب، الحل السياسي يمهد للحل الأمني والعسكري.
&