سلامة كيلة

&

&

&

&

&
أصبح الحديث يتمركز حول داعش (تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام)، وتمددها من المشرق إلى المغرب، رغم أنها تعلن أنها «دولة العراق والشام». وأصبحت تبدو كبديل «عربي» لتنظيم القاعدة، رغم أن جل عناصرها غير عرب.

وفى ذلك مفارقة تطرح الأسئلة، وتثير التساؤلات، فقد بدت بديلاً عن «التنظيم العالمي» الذى هو تنظيم القاعدة، وأخذت تحلّ محله فى الإعلام وفى التصريحات والحديث. وبدا أنها مختصّة بالوضع العربى رغم أنها تتعلق بالعراق والشام كما تتسمى من قبل أصحابها. ولقد باتت الخطر المخيف، والقوة التى تثير الرعب، والهاجس الذى يطلق الهوس. هكذا فجأة، من قرَّر ذلك؟ ومن فرض أن يبدأ هذا المسلسل التاريخي؟

النخب بدأت التأكيد بأن ذلك هو نتاج واقعنا وتاريخنا، حيث إن داعش هى نتاج التخلف الذى نعيشه، وأنها نتاج تاريخنا الذى شهد سيطرة الدين، والوعى الديني. بذلك فإن التخلف هو السبب لدى البعض، والدين هو السبب لدى آخرين. ولهذا بدأ جلد الذات، وجلد الواقع والتاريخ، وحتى الدين. كل هذا التقييم نتج عن الممارسات التى تقوم بها من جلد وصلب وفرض سلوك، وقطع رؤوس، وكل ما ينقل فى وسائل الإعلام والفيس بوك خصوصاً. بالتالى باتت المشكلة فى التخلف، وبات الندب على وضعنا المتخلف الذى ينتج داعش وأمثالها. بمعنى أن الميل بات للتركيز على التخلف كظاهرة قائمة فرضت نشوء ظواهر مثل داعش تمارس ما يبدو أنه فعل سحيق فى القدم، لكنه مازال قائماً. هل التخلف الذى يجرى لفت الانتباه إليه هو السبب الذى ينتج هذا الشكل من القوى وهذا الشكل من الممارسة غير الإنسانية؟

لا شك فى أن ما تمارسه داعش وأخواتها متخلف، ويؤشر إلى ممارسات سابقة للإسلام بقرون، وبعضها يستند إلى نصوص دينية وفق تفسيرات معينة قيلت فى مرحلة انحطاط الحضارة، وكتعبير عن هذا الانحطاط. لكن ألا تبدو ممارستها الآن وكأنها قصدية؟ ولها هدف؟

إن البنى المجتمعية العامة تجاوزت هذا الشكل من الممارسة عموماً، وأصبحت تلك الممارسات غير مقبولة أصلاً. هذا ما ظهر فى مواجهة العراقيين لتنظيم «دولة العراق الإسلامية» سنوات 2007 و2008، حتى بتحالف بعض العشائر مع الاحتلال الأمريكي. وما ظهر من مواجهة مناطق سورية عديدة، تعتبر متخلفة، لجبهة النصرة ثم لداعش. بمعنى أن البنية المجتمعية باتت متجاوزة لهذا الشكل من الممارسة التى باتت تعتبر من التاريخ القديم وتظهر فى المسلسلات التاريخية فقط. طبعاً هذا لا يشمل كل المجتمع، فهناك مناطق مازالت تعيش القرون الوسطى التى تبعت انهيار الحضارة العربية الإسلامية، تعيش التهميش الاقتصادى والحضارى معاً، لكن هذا لا يعنى أن كل المجتمع يعيش التخلف الذى ينتج هذا الشكل الأصولي. لا شك فى أن محاولات التطور التى حدثت فى العصر الحديث لم توصل فى الوطن العربى إلى القطع مع الماضي، بالضبط لأن السيطرة الاستعمارية منعت التطور، ومن استلم الحكم بعدها تشابك مع القوى الإمبريالية، ومن حاول ووجه بالقوة والضغط لكى يفشل. لهذا لم تنتصر الحداثة بعد أن فشل مسار بناء الصناعة وتطوير الزراعة، وعلمنة المجتمع. ولقد عملت النظم الاستبدادية بعد انهيار مشروع التحرر على دعم كل القوى الأصولية، وفرضت التجهيل فى المدارس والجامعات، وعممت السحر والشعوذة فى الإعلام، بهدف سحق كل الفكر الحداثى الذى تسرّب خلال العقود الماضية. فمنذ سبعينات القرن العشرين أعادت النظم إنتاج الأصولية، وفرضت نشر الوهابية. بالتالى حدثت عملية ارتداد واسعة، ترافقت مع اللبرلة وتصاعد النهب الاقتصادى والفساد وتدمير الاقتصاد والتعليم.

لهذا ليس مستغرباً أن تنشأ ظواهر مثل داعش والنصرة، وقبلهما تنظيم القاعدة، وحركات كثيرة أخرى. وأن تعتمد على البنى المهمشة والمفقرة، وعلى المناطق التى ظلت «خارج التاريخ». بالتالى على فئات شبابية مهمشة بالمعنى الاقتصادى وبالمعنى الحضارى فى عالم سيطرت الصورة فيه، وباتت التلفزة مغرية. وفى مجتمع يميل إلى الكبت. لكن كل هذه المسائل لا تجيب على السؤال كيف نشأت داعش، وقبلها القاعدة؟ فإذا انطلقنا من التخلف يمكن أن نفسّر الظواهر التى تراها كممارسات نعتبر أنها متخلفة، وتعبر عن العصور المظلمة. وهى ممارسة طقوس بشعة باسم الدين، تُعزى لقرون سحيقة سالفة. لكن ذلك لا يجيب على سؤال داعش، التنظيم الذى نشأ فجأة وتوسع بهذا الشكل الذى ينقل فى الإعلام، ويستخدم أحدث التكنولوجيا، ويستخدم النت بشكل متطور، ويحصل على مليارات الدولارات وأحدث الأسلحة وسيارات الدفع الرباعي.

إذن، هو يتضمن قمة التخلف وقمة التكنولوجيا، السيف وأحدث الأسلحة. رغم أن التخلف المشار إليه ينسب لفئات متخلفة مهمشة. كيف يمكن أن نفسّر هذه المفارقة؟ فالفئات الآتية من أجل حوريات الجنة، أو من أجل الظهور، أو المؤدلجة بالشعوذات والسحر، لا يمكنها أن تكون فاعلة على النت أو قادرة على الحصول على مليارات الدولارات، أو فى التخطيط لحرب، أو تحديد الهدف الذى يجب مهاجمته الآن أو غداً. ولا تعرف لماذا تقاتل الآن فى أفغانستان ثم تنتقل إلى العراق وتذهب إلى اليمن ثم تتجمع فى سوريا. هذه مسائل لا تتوافق مع التخلف الذى ينتج تلك الممارسات.

لا شك فى وجود فئات مهمشة ومتخلفة، وهى فى الغالب التى تكون عناصر هذا التنظيم وكل فروع تنظيم القاعدة، لكن كيف تنتظم ممارساتها بالشكل الذى نراه؟ هنا يجب أن نتذكر أن «المجاهدين» تشكلوا بناء على تسهيل وتدريب العديد من أجهزة المخابرات، وخصوصاً الأمريكية، لكنها لم تبق وحيدة فى ذلك. ومن ثم لا يمكن فهم وضع داعش دون لمس من هى الأجهزة التى تديرها. وهذا هو السبب الذى يفسّر صعودها السريع، وتوسعها السريع، والأماكن التى تذهب إليها. فقد ظهرت كعنصر تخريب للثورة فى سوريا، وللحراك الذى بدأ ضد نظام المالكى فى العراق.
&