عبدالعزيز العويشق

أكتب هذا الأسبوع من مدينة "ملبورن" الأسترالية، حيث يعيش نحو ثُلث مسلمي أستراليا، البالغ عددهم نحو نصف مليون نسمة، أو 2% من سكان أستراليا، ويعيش نصفهم في مدينة "سيدني" وما حولها.


ويندمج معظم السكان المسلمين بسلاسة مع بقية المجتمع الأسترالي، الذي يتكون سكانه من مهاجرين جاؤوا من أكثر من "170" دولة، يعيشون في سلام، وإن كانت بينهم فروق اقتصادية واضحة.


والمجتمع الإسلامي في أستراليا قديم عريق، حيث وُلد نصف أفراده في هذه البلاد، بل يعود حضور الإسلام والمسلمين إلى قرون عدة قبل الاستعمار الأوروبي، ولذلك يحتج المسلمون على أي تلميح بأن حضارتهم ودينهم أقل أصالة وعراقة.


نجد مثلا مسلمين بين السكان الأصليين لأستراليا، حيث أظهر التعداد الأخير "2011" وجود "1,140" من السكان الأصليين المسلمين، وقد يكون بعضهم اعتنق الإسلام مؤخراً، ولكن من المؤكد أن بعضهم يرجعون إلى المسلمين الأوائل، الذين قدموا من الجزر المجاورة، ولهم تأثيرات واضحة في الطقوس الدينية والرقصات التقليدية والأغاني والفن لدى السكان الأصليين في شمالي أستراليا. وبعض المسلمين هم أسلاف للعمال المسلمين الذين حضروا أو أحضروا بالقوة إلى أستراليا في القرن التاسع عشر.


فيعتقد المؤرخون أن الاتصالات بين أستراليا والمسلمين تعود إلى ما قبل وصول الأوروبيين.


فقد كانت هناك علاقات اقتصادية مهمة في مجالي الصيد والتجارة بين السكان الأصليين وجيرانهم في إندونيسيا وغيرها، الذين يُعتقد بأن الكثيرين منهم استقروا في أستراليا، واختلطوا بسكانها الأصليين قبل قدوم الأوروبيين بقرون عدة، وكان لهم تأثيرات مهمة في اللغة والفن والاقتصاد وجينات سكان شمال أستراليا، حيث يوجد تشابه ملحوظ بينهم وبين سكان الجزر الإندونيسية.


ولدى قدوم البريطانيين إلى أستراليا، أحضروا معهم عمالا مسلمين "بالقوة أحيانا" من المناطق الخاضعة للنفوذ البريطاني في أفريقيا وآسيا، كملاحين وعمال زراعيين وجمّالين، حيث استخدم الأوروبيون الجمال لنقل الركاب والسلع عبر مناطق أستراليا الشاسعة قبل شق الطرق وسكك الحديد، وأسهم كل هؤلاء في تكوين المجتمع الإسلامي الأسترالي.


وباعتبار هذا التاريخ العريق، يؤكد المسلمون الأستراليون ولاءهم لهذه البلاد، ولا يقبلون اتهامات المتطرفين من المجموعات اليمينية، الذين يشككون في ولائهم، والذين نظموا في السابق حملات محمومة ضد المسلمين، مثلما حدث بعد 11 سبتمبر 2001، والاضطرابات العرقية في سيدني عام 2005.


ويشعر المسلمون هذه الأيام بأنهم تحت الحصار من جديد، حيث يتعرضون لحملة إعلامية شرسة من قبل وسائل الإعلام، تشكك في ولائهم وتوجهاتهم.


بدأت هذه الحملة بعد اكتشاف وجود عشرات من المقاتلين المسلمين الأستراليين في صفوف المجموعة الإرهابية المعروفة بـ"الدولة الإسلامية"، إذ شارك بعضهم في الجرائم الشنيعة التي ارتكبت في العراق وسورية.
ومع أن قادة المسلمين الأستراليين دانوا هذه الأعمال ومرتكبيها، إلا أن الصحافة مازالت تشن حملتها على الإسلام والمسلمين دون تمييز.


ففي 9 أغسطس نشرت صحيفة "الأسترالي" المحافظة على صفحتها الأولى، بالخط العريض، هذا العنوان: "قائد الجيش الأسترالي السابق: سنحارب الإسلام على مدى الـ100 سنة القادمة"، إذ قامت الجريدة "التي يمتلكها مردوخ" بإجراء مقابلة مع الجنرال المتقاعد، ثم قامت بتحريف كلامه في العنوان بطريقة متهورة. إذ يظهر أن الجنرال ـ الذي لم يعد معبرا عن وجهة نظر الحكومة أو المؤسسة العسكرية ـ كان يقصد مواجهة الجماعات الإسلامية الإرهابية، وليس الإسلام. وحسب المقال، فإن "ليهي"، القائد السابق للجيش، أخبر الجريدة بـ"أن أستراليا تحتاج إلى التحضير لحرب لا هوادة فيها مع الإسلام المتطرف، تمتد "100" عام، يتعين علينا محاربتها على أراضينا وفي الدول الأخرى".
وأضاف أن على أستراليا اتخاذ خطوات استباقية وعدم الانتظار إلى أن ينقل الإرهابيون الحرب إلى أراضيها.


وتبعت هذه المقالة التحريضية مقالات أخرى تدّعي بأن أحياء المسلمين أصبحت أماكن أُحادية الثقافة، لا يتكلم فيها أحد بالإنجليزية، ويتجمع فيها المتطرفون، وتُرفع فيها أعلام الجماعات الإرهابية.
أثارت هذه الحملات الإعلامية التحريضية ضد المسلمين استهجان الأستراليين بجميع طوائفهم. فهبّ قادة مسيحيون ويهود لبدء حملة للدفاع عن المسلمين سمّوها "سوف نحب المسلمين لمدة 100 عام"، في إشارة إلى عنوان صحيفة "الأسترالي" الذي أشرتُ إليه. وفي يوم الجمعة "22 أغسطس"، نظّم رجال الدين المسيحيون واليهود فعاليات كبيرة لهذا الغرض في ولايات "نيو ساوث ويلز" و"جنوب أستراليا" و"غرب أستراليا"، دعوا فيها الأستراليين من جميع الطوائف للوقوف مع المسلمين.
وانتقد "براد تشيلكوت" أحد منظمي هذه الفعاليات، وهو رجل دين مسيحي، لهجة التفرقة بين مكونات المجتمع الأسترالي، وقال: "إن الشباب المسلمين في جميع مجالات الحياة يشعروف بالإقصاء بسبب هذه اللهجة، مع أنهم طلبة جامعات ومهندسون وأطباء، لهم إسهامات واضحة في حياة أستراليا". وبالمثل، قال الحاخام "سلمان كاستل"، أحد منظمي الفعاليات ورئيس مجموعة للحوار بين الأديان: "لقد قلقتُ بسبب اللهجة الحادة والقاسية التي نراها في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كل يوم وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، التي تلصق تهمة الإرهاب بالمسلمين. وهي بكل بساطة نتيجة للعجز الثقافي" في أستراليا.


أما "تشيلكوت" فإنه يُحمّل الحكومة المسؤولية بسبب "خطابها الذي يستدعي ذكريات 11 سبتمبر 2001، ويُخرج المجتمع الإسلامي الأسترالي من دائرة الشرعية".


ويضيف: "إن الحكومة تخاطر بهذا الطريقة بأنها توجد الظروف المناسبة التي تقود إلى الانعزالية والتطرف في نهاية الأمر. فعندما تستبعد أي مجموعة، إما لأنهم عاطلون عن العمل، أو صغار السن، أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، أو يتبعون دينا آخر، فإنك توجد الظروف المواتية التي تجعلهم لا يثقفون بالسلطة الحكومية، وينعزلون عن بقية المجتمع، ويحسون بالإقصاء والغضب والإحباط".


شكّل هذا الجدل خلفية للاجتماعات التي عقدها رئيس الوزراء الأسترالي "توني أبوت" خلال الأسبوع الماضي مع قادة المجتمع الإسلامي، التي يسعى من خلالها إلى كسب الدعم لقوانين مكافحة الإرهاب التي تعتزم حكومته طرحها على البرلمان قريبا.
وسأخصص مقال الأسبوع القادم لمناقشة نتائج تلك الاجتماعات وردود الفعل المختلفة حيالها.