محمد كريشان

«الصيد» باللهجة التونسية المحلية تعني الأسد. لهذا تندر بعض التونسيين بعد تكليف الحبيب الصيد بتشكيل الحكومة الجديدة بالقول: كنا نخشى «التغول» فإذا بنا نواجه «صيد» مرة واحدة!! وكلمة «التغول» هذه ظهرت مع إعراب البعض في خضم الحملة الانتخابية البرلمانية ثم الرئاسية عن الخشية من أن تجد تونس نفسها برئيس دولة من حزب «نداء تونس» ورئيس حكومة من نفس الحزب، مما قد يعيد البلاد إلى غول هيمنة حزب واحد على مقاليد الحكم كما كان الشأن دائما منذ استقلال تونس عام 6591.


خطر «التغول» هذا حاول الرئيس الجديد الباجي قائد السبسي تبديده أول أمس بتعيين شخصية مستقلة من خارج حزبه لتشكيل أول حكومة تونسية في الجمهورية الثانية منعا لأن تصبح الرئاسات الثلاث في تونس (الدولة والبرلمان والحكومة) من نفس اللون السياسي. غير أن تكليف الحبيب الصيد بقدر ما أبعد استمرار الخوض في هذا الخطر المفترض طرح كلاما آخر عن خطر من نوع جديد تبدو مؤشراته أكثر مثولا للعيان. هذا الخطر الجديد، بنظر هؤلاء، هو عودة ما يسمى بالنظام الرئاسوي أي النظام الرئاسي المبالغ في إيلاء مكانة خاصة لرئيس الدولة الذي هو في هذه الحالة قائد السبسي إبن المدرسة البورقيبية التي أفرزت «المجاهد الأكبر».


بصورة أوضح، يخشى البعض من أن الرئيس التونسي الجديد بتعيينه شخصية، لم يعرف عنها أنها كانت يوما شخصية سياسية بارزة أو صاحبة رؤى ومواقف متميزة، يكون إختار شخصية تنفيذية بالدرجة الأولى ستعمل جاهدة على تطبيق ما يراه رئيس الدولة الذي كان بإمكان حزبه الفائز بالانتخابات الأخيرة أن يختار أحد قيادييه لتولي هذا المنصب. بتفصيل أكثر، ستكون مرجعية رئيس الحكومة الجديد هو رئيس الدولة نفسه وليس حزبه أو كتلته النيابية، إليه سيعود في كل كبيرة وصغيرة باعتباره زعيم الحزب صاحب الفضل في تعيينه حتى وإن كان الباجي قائد السبسي قد ترك رسميا هذا المنصب فلا أحد يخفى عليه أن له القول الفصل في كل قراراته.


ومع أن الرئيس التونسي الجديد أراد من خلال ما قام به توجيه رسالة طمأنة بأن لا نية له أو لحزبه الاستحواذ على كل شيء، إلا أن العصفور الآخر الذي ضربه بنفس الحجر هو جعل الخيوط تعود مرة أخرى إلى مقر الرئاسة في قصر قرطاج بعد أن تحولت طوال السنوات الثلاث الماضية إلى مقر رئاسة الحكومة في القصبة، حتى لا نقول إلى حي «مونبليزير» مقر حزب حركة «النهضة». لكن توجها من هذا القبيل، إذا ما تأكد فعلا بعيدا عن قراءة النوايا، لن يكون سهلا على الإطلاق لاعتبارات دستورية وسياسية وشعبية أبرزها أن :
ـ الدستور التونسي الجديد الصادر مطلع العام الماضي كان واضحا تماما في تحديد صلاحيات كل من رئيس الدولة ورئيس الحكومة مع ترجيح واضح لكفة هذا الأخير. وقد ولدت هذه الصيغة بعد جدل طويل حول طبيعة النظام السياسي في تونس لقطع الطريق أمام رئيس مطلق الصلاحيات كما كان زمن الحبيب بورقيبة وزاد استفحالا مع زين العابدين بن علي. من هنا من الصعب أن تــُـفرض معادلة أخرى إلا تلك التي يرتضيها رئيس الحكومة لنفسه بحيث يقبل أن ينسق كل شيء مع رئيس الدولة وهو ما لم يكن قائما مع الرئيس منصف المرزوقي وما لا يمكن تصوره إذا ما كان الرئيسان من حزبين مختلفين.


ـ هناك على ما يبدو أجواء من عدم الارتياح أو التذمر بدأت تظهر من خلال تصريحات مسؤولين ونواب برلمان سواء من حزب «نداء تونس» أو من أحزاب أخرى، باستثناء حركة «النهضة» المرتاحة على ما يبدو لما جرى. المتحفظون من حزب الرئيس كانوا يفضلون صراحة أن يكون رئيس الحكومة من قيادييهم البارزين الذي سيعمل صراحة على تنفيذ برنامج هذا الحزب، أما المتحفظون الآخرون فكان بودهم أن يكون رئيس الحكومة الجديد من غير طينة رؤساء الحكومات الذين دأب بن علي على اختيارهم فقط لتسيير وتنسيق عمل الحكومة وفق ما يراه هو ليس إلا.


ـ المزاج الشعبي العام لم يعد يقبل في العموم رئيسا مطلق الصلاحيات بعد أن ذاق لعقود ويلات ذلك، وإن كان ذلك لا ينفي وجود شرائح معينة ما زالت تحن إلى صورة الرئيس القادر على أن «يملأ كرسيه» كما يجب بعد أن ساءهم أن يؤول منصب الرئيس في السنوات الثلاث الماضية إلى ما آل إليه من هون، إما بفعل صاحبه نفسه أو بفعل من تعامل معه بكثير من التجاوز في حق المنصب والرجل معا.


في كل الأحوال لن يملك الرئيس الباجي قائد السبسي ولا رئيس الحكومة الجديد في نهاية المطاف سوى التحرك ضمن ما حدده الدستور المنظم للحياة السياسية فمن رأى إعوجاجا ما في هذا السياق فليقومه مبكرا بالتنبيه إليه بأعلى صوت داخل مجلس النواب وفي الإعلام وإذا اقتضى الأمر المحكمة الدستورية. في الأثناء لينتظر الجميع مآلات الأمور بأعين مفتوحة…. جدا.