رضوان السيد

تتصارع وتتصادم الملفات ووقائع الخراب على الأرض العربية وفي الأجواء العربية. وأول ما يخطُرُ بالبال وسط هذه الأحداث الجسام هو الإطار الذي يمكن النظر إليها من خلاله. الأمير الراحل سعود الفيصل اعتبر هذا المجالَ مجالاً واحدًا سمّاه: الخواء الاستراتيجي العربي. فالمجال الخاوي والمستهدَف بالتدخلات والاختراقات هو المجال الاستراتيجي العربي. وله ثلاث خصائص: الهشاشة الداخلية، والتدخلات الإقليمية والدولية، وغياب الوعي أو تضاؤله بالهوية والانتماء العربيين لدى السياسيين والمثقفين وفئاتٍ من الجمهور.


تتمثل الهشاشة الداخلية في ظهور غربةٍ قويةٍ بين السلطات والجمهور، وظهور تشققات وانشقاقات دينية وإثنية وجهوية. وقد بدت الغربة المذكورة بوضوحٍ في حراكات عام 2011 حين تحركت فئاتٌ شابةٌ واسعةٌ في عدة بلدانٍ عربيةٍ تتقصد التغيير السياسي. بيد أنّ هذه الحراكات، وخلال أقلّ من ثلاثة أعوامٍ، ما لبثت أن تراجعت أو تضاءلت لبروز التشققات والانشقاقات وعوامل التصارع والاقتتال الداخلي، مما أخاف الناسَ من الفوضى.


تتجلَّى هذه التشققات والانشقاقات في بروز التطرف الديني والإثني والجهوي والسياسي. فحتّى المعارضون السلميون المطالبون بالتغيير واجههم مُعارضون آخرون باتهامات التآمر والتطرف وتقسيم المجتمع. هذا فضلاً عن تصدّي المتطرفين المسلَّحين أو الذين تسلَّحوا وقاتلوا الجميع: الأنظمة ومعارضيها. وصحيحٌ أنّ المتطرفين تلقَّوا دعمًا من الخارج لأسبابٍ شتّى؛ لكنّ كثرتهم الساحقة كانت موجودةً من قبل، وتنتظر الفرصة والإمكانيات للتمرد.


أما التدخلات الإقليمية والدولية فقد تحركت إلى قلب الدول وعبر الحدود العربية، إمّا لدعم الأنظمة القائمة الحليفة لها، أو لدعم جماعة سياسية أو دينية رجاء الإبقاء على مناطق نفوذها، أو اصطناع مناطق نفوذ جديدة. وهذا يعني أن تلك التدخلات كان جزءٌ منها قائمًا قبل الحراكات الشعبية الشبابية. وهذا ما قصده الراحل سعود الفيصل عندما تحدث عن «الخواء» في ربيع عام 2011. فقد كانت هناك تحالفاتٌ ثنائيةٌ وتبعياتٌ بين أنظمة عربية ودول الجوار، أو مع دول كبرى مثل أميركا وروسيا والصين. وكانت تلك طريقة الأنظمة في الحفاظ على سلطتها كما كان الشأن في زمن الحرب الباردة. وقد صادفت قوى الجوار والقوى الدولية الخواء الداخلي، فتغلغلت فيه قبل الحراكات وبعدها، إمّا لنُصرة الأنظمة الحليفة لها (مثل إيران في سوريا والعراق)، أو لمحاولة اجتراح وقائع جديدة ومناطق نفوذ جديدة (مثل روسيا الآن). وغني عن البيان أنّ التدخلات تلك تلاءمت أو اصطدمت بالتشققات والانشقاقات التي كانت قد ظهرت أو دُفعت للظهور.


أما الخصيصةُ الثالثةُ أو العِلّة الثالثة لهذه الظواهر المفجعة فهي غياب الوعي بالانتماء الجامع، وضرورة التعامُل التضامني في ما بين السلطات في وجه الظاهرتين أو الواقعتين: الانشقاقات الدينية التي صارت إرهابًا، والتدخلات الخارجية التي انتهكت السيادة، وقتلت الناس، وهدَّدت الوجود العربي. في وجه هذه الظواهر والوقائع ما برز وعي عربي جامعٌ للوقاية أو للمكافحة. وهذا رغم تهدد الدول والمجتمعات، وظهور الاستهداف الشامل للعرب أرضًا وانتماءً وسيادة.


إنّ هذه التحديات الاستراتيجية تفاقمت وتشابكت في أربع نقاط: سوريا والعراق واليمن وليبيا. فالدولتان في سوريا والعراق مهددتان وجوديًا بالتطرف والإرهاب، والتدخلات الخارجية. واليمن حصل فيه انقلابٌ على الشرعية شجعّتْ عليه التدخلات الخارجية. وليبيا زالت، الدولة الضعيفة أصلاً، وسيطرت عشرات الميليشيات التابعة لهذه الجهة أو تلك. وقد بادرت السعودية ومعها دول الخليج الأخرى إلى التدخل العسكري في اليمن للحيلولة دون انهيار الدولة، وتمكين الشعب اليمني من أخذ الخيار الذي يريده بنفسه. والوضع الليبي لا يقلُّ سوءًا عن الوضع السوري وإن يكن القتل والتهجير أقل. ولا ينبغي ترك العراق وسوريا للخراب والتقسيم، بل لا بد من كفّ عادية التدخلات بالدبلوماسيات والتفاوض وبمساعدة المعارضة في سوريا، والمُضي في سبيلٍ بالعراق تسمح باستعادة ثقة المكونات ببعضها بعضا، أو يحصل التقسيم الذي يعني الحرب الدائمة. وكذلك الأمر في ليبيا التي تتفسّخ من جهة، وتهدد انفلاتاتها مصر وتونس والجزائر وأوروبا!
إنّ الخواء الآخَر المهدّد هو الانشقاق الديني بالداخل من جهة، والتدخلات باسم الدين من الخارج. والانشقاق بداخل الدين لا بد أن يُكافح بالقوة لأنه خطر على الدين والمجتمعات. أما التشييع فهو يقترن بالحضور الإيراني العسكري والأمني، وينبغي التركيز مع المجتمع الدولي على إجلاء إيران العسكري من البلدان، فيتراجع التشييع.


إنّ هذه الأمور على صعوبتها ممكنة التحقيق، لو توافر الشرط الآخر، شرط الوعي الواحد بالمصير الواحد. وهذا الأمر لم يظهر رغم العدو المشترك. وقد تضاءل الوعي بالعروبة لسببين: أنّ بعض الأنظمة متحالفة مع دول الجوار أو دولة كبرى فلا تقبل تدخلاً عربيًا - وأنّ الدول التي تستطيع التدخل مثل مصر والسعودية منشغلة بجوارها المهدَّد والمهدِّد.


بيد أنّ البُعد الديني للتحدي، على هَوله وفظاعته؛ لا تنحصر تهديداته في الاختراقات والانشقاقات وجذب التدخلات الخارجية، بل تتخطّى ذلك إلى جعل علائق العرب بالعالم شديدة الصعوبة.. بل صارت تبلغ أحيانًا درجة الاستحالة. وهذا الأمر يحتاج إلى أجيالٍ للمعالجة ولأْم الجراح. لكنّ الأمر يبدأ الآن ومن جانب كل العاملين في المجال السياسي والآخر الثقافي وبشكلٍ وخطابٍ واحدٍ إلى الداخل والعالم. إنّ الذي هلك بالانضمام إلى «القاعدة» و«داعش»، ما عاد يمكن إنقاذه في الغالب. لقد كان هذا هو الاعتقاد السائد، إلى أنّ ظهر عام 2007 برنامج المناصحة من جانب وزارة الداخلية بالسعودية. وقد أمكن النجاح من طريق استيعاب مئات الشبان، وإعادة تأهيلهم دينيًا وأخلاقيًا واجتماعيًا.

وهذا منهجٌ تصبح جدواه ظاهرةً إذا انضمت إليه أو تعاونت فيه دولٌ عربيةٌ وإسلامية أُخرى، لكنها منهجيةٌ جيدةٌ ولافتة ولا بد من المتابعة الحثيثة. ويبقى الأمر الآخر: منع ظهور أجيال جديدة تنالُ منها العدوى عند كل موجة، مثل موجة بن لادن وموجة الزرقاوي، وموجة «داعش». ولستُ مقتنعًا بقصة المناهج التربوية وتعديلها، وإنما حتى لو كان ذلك صحيحًا، فالأمر يحتاج لأجيال. ويحتاج لأجيالٍ أيضًا إصلاح الخراب الذي داخلَ علاقاتنا بالعالم دينًا وأخلاقًا وإنسانية!
هناك زلزالٌ جيوسياسي ناجم عن الإغارات بالدواخل الناجمة عن الفراغ والهشاشة. وآخر ديني انشقاقي، ناجم عن تصدع التقاليد، وأواصر التماسك، وحرمات الدماء والأنفس والأخلاق. ولا تزال الجهود قاصرة ومقصرة على الجبهتين السياسية والدينية. لكنّ المثقفين والسياسيين ورجال العلم والدين مسؤولون مسؤولية العسكريين والأمنيين. والحائل دون قيام الجبهة الثقافية والدينية وصمودها تراجع الوعي وانقسامه في الوقت نفسه، وهذا يحصل عندما تتخلى الأُمم يأسًا أو غضبًا عن نفسها: «والله غالبٌ على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون».
&