محمد خليفة

عندما تقدم تنظيم «داعش» في منتصف شهر مايو/أيار 2015 ونجح في السيطرة على مدينة الرمادي، كان ذلك بمثابة انتكاسة جديدة للدولة العراقية أمام هذا التنظيم الذي يزداد قوة وشراسة، وبغض النظر عن أسباب وقوع تلك النكسة الاستراتيجية، فإن الولايات المتحدة التي تقود تحالفاً دولياً لقتال «داعش»، وجدت الفرصة مناسبة لزيادة وجودها العسكري في العراق. فأعلنت وزارة الدفاع الأمريكية مؤخراً أنها تبحث إقامة قواعد عسكرية جديدة في هذا البلد، حتى يتسنى لمستشاريها العسكريين مراقبة الوضع عن قرب من خطوط الجبهة مع تنظيم «داعش» الإرهابي.

وأوضح المتحدث باسم البنتاغون الكولونيل ستيف وارن أن: قاعدة «التقدم» في محافظة الأنبار، التي أعلن عنها، ستضم العسكريين الأمريكيين ال450 الإضافيين الذين أمر الرئيس باراك أوباما بإرسالهم إلى العراق، وقد تكون الأولى في سلسلة قواعد عسكرية أمريكية جديدة في هذا البلد.

والواقع أن هذه القاعدة ليست هي الأولى التي تنشئها الولايات المتحدة في هذا البلد، فمنذ احتلالها العراق، عمدت إلى البقاء فيه إلى زمن طويل قادم، كما فعلت من قبل في ألمانيا واليابان عقب الحرب العالمية الثانية، وذلك عبر إقامة القواعد العسكرية ونشر الجنود والمعدات الحربية فيها. وقد سيطر الجيش الأمريكي على أكثر من 106 من المواقع الاستراتيجية في العراق تتراوح بين: معسكرات تدريب، ومواقع انتشار رادار، وقواعد عسكرية معظمها يعود للمواقع العسكرية العراقية التابعة للنظام السابق.

وتحصر بعض التقارير الوجود الأمريكي الدائم في العراق في ست قواعد عسكرية رئيسية، بالإضافة إلى عشرات المعسكرات الأخرى المنتشرة في أنحاء العراق وأهم هذه القواعد هي، قاعدة بلد، وقاعدة التاجي، وقاعدة عين الأسد، والقاعدة الكبيرة في المنطقة الخضراء في قلب بغداد، وقاعدة الحرية في الموصل، وقاعدة عين الأسد في مدينة البغدادي. وكانت الولايات المتحدة قد وقعت اتفاقية مع حكومة بغداد، في أكتوبر عام 2008، بشأن انسحاب القوات الأمريكية من العراق؛ لأن التفويض الدولي لها في البقاء هناك ينتهي بنهاية ذلك العام، لكن هذه الاتفاقية كانت مجرد إطار سياسي، لتسويغ الوجود العسكري الأمريكي الدائم، والذي نصت عليه بنود الاتفاقية بكل وضوح.

ومع ظهور «داعش» كخطر يهدد العراق، والمنطقة تحركت الولايات المتحدة لحماية مصالحها، وقامت بتشكيل تحالف دولي لمحاربة هذا التنظيم بعد احتلاله الموصل، وبعض المحافظات العراقية الأخرى في يونيو/حزيران عام 2014، وشنت مقاتلات التحالف آلاف الغارات الجوية على مواقع تواجد التنظيم، لكن هذه الغارات لم تكن كافية للقضاء عليه، لأن عناصره يختبئون بين المدنيين في المدن والتجمعات السكانية الأخرى، الأمر الذي عزز المخاوف من قدرة التنظيم على الاستمرار. ولذلك كان يتعين على الولايات المتحدة أن تعمد إلى تغيير استراتيجيتها في التعاطي مع «داعش»، من خلال العمل على بناء قواعد عسكرية جديدة في الأنبار وغيرها، لتكثيف الانتشار العسكري الأمريكي، وسد الثغرات التي يمكن أن ينفذ منها «داعش»، وصولاً لحصر هذا التنظيم والقضاء عليه.

ورغم أن الاستراتيجية الأمريكية منصبة حالياً على الخلاص من «داعش»، لكن عينها الأخرى على التغيرات التي تجري في الدول المجاورة، فسوريا التي ترزح تحت وطأة حرب متعددة الأوجه، باتت تشكل الخطر الأكبر على مستقبل العراق واستقراره، كما أن تركيا باتت تعيش في مخاض عسير من جراء ما يحدث في سوريا والعراق، فالمكون الكردي بات يضغط باتجاه الاستقلال وإعلان دولة على مساحات الوجود الكردي وخاصة في تركيا، الأمر الذي دفع بالحكومة التركية إلى إعلان حربها على «حزب العمال الكردستاني» في مسعى منها لإطفاء جذوة الأكراد ومنعهم من تحقيق حلمهم بإقامة دولة مستقلة.


ولما كانت تركيا دولة مهمة جداً في الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، فإن استقرارها ضروري لاستمرار تلك الاستراتيجية في الوجود. وفي المقابل، فإن المشروع الأمريكي يتقدم في العراق عبر بناء قواعد عسكرية جديدة، ليبقى هذا البلد تابعاً للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه ليكون بمثابة حاجز يقف في وجه جميع التحولات التي قد تعصف بالمحيط العراقي ظاهرًا، والمصالح الأمريكية باطناً.
&