&&عبدالحميد الأنصاري

&
ما أحوجنا، في هذه الأيام المريرة، إلى تكاتف جهودنا، لنشر وتعزيز "قيم المحبة" و"ثقافة التسامح" في مجتمعاتنا الخليجية والعربية والإسلامية التي تواجه موجات متصاعدة من ظواهر التعصب والكراهية والتطرف العنيف واللدد في الخصام والغلو في التشفي والانتقام، ما أشد حاجتنا في هذه الأوقات العصيبة إلى تجديد طاقاتنا النفسية والوجدانية بالاستماع والإنصات إلى هذه الآيات العذبة من كتاب الله تعالى، تحمل النسمات اللطيفة إلى أرواحنا، وتخفف من معاناتنا.... يقول المولى تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا).


ما أجملها آية تغذي الروح والوجدان، محبة وتسامحاً، ثم أنصت ملياً إلى هذه الآية التي تسلب اللب روعة "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وأرهف حواسك خاشعاً لقوله تعالى "خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ"، وأنى تجد محفزاً على التسامح مثل كتاب الله تعالى "وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)؟
عجبت - طويلاً - لأمة هذا كتابها، التسامح والبر والإحسان، وتحيتها السلام، ورسولها، عليه الصلاة والسلام، رحمة للإنسانية جمعاء، جاء متمماً لمكارم الأخلاق، كيف لا تترسخ قيم المحبة والتسامح بين جنباتها؟!
إننا في هذه الأيام، أكثر احتياجاً إلى تكريس "ثقافة التسامح" في مجتمعاتنا وسلوكياتنا وعلاقاتنا، أصبح بأسنا بيننا شديداً، طروحات الكراهية والتعصب والعنف تنامت في مجتمعاتنا وصارت تستهوي أفئدة من شبابنا، إننا اليوم بحاجة ماسة إلى إعادة شحن طاقات شبابنا بقيم التسامح وقبول الآخر وحب البناء والتنمية والإنتاج والإبداع كبقية شباب العالم الذين يتنافسون في ميادين الإنجاز والابتكار والاكتشاف وخدمة الإنسانية، لقد طغى دعاة الكراهية وخطفوا عقول بعض شبابنا وجندوهم لمشاريع الهدم والقتل والترويع والتلذذ بحرق الأسرى وقطع رؤوسهم!


إننا اليوم بحاجة شديدة إلى ترسيخ "إنسانية" ديننا وعلو قيمه وسمو مبادئه في مواجهة هؤلاء الذين انتهكوا كل المقدسات واخترقوا كل الثوابت الدينية وأهدروا كل الكرامات الإنسانية.
في تصوري أن البداية الحقيقية لغرس "قيم التسامح" تكون في البيت، الأسرة الصغيرة، في تسامح الأبوين بعضهما مع بعض، وفي تسامح الأولاد مع بعضهم ومع جيرانهم وأصدقائهم ومع الخدم في البيت، في تربيتهم على "ثقافة التسامح" وتعويدهم عليها كسلوك مكتسب، في تشجيعهم على الاطلاع على الثقافات الأخرى، وعلى الفنون والآداب والموسيقى، فهذه تهذب سلوكياتهم وتسمو بنفسياتهم.
وتتعزز "ثقافة التسامح" عبر مؤسسة التعليم، فيكون المعلم، نموذجاً متسامحاً لطلابه ولزملائه، ثم تتوطد هذه الثقافة عبر منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدينية والتوجيهية والثقافية والإعلامية وغيرها، ثم إن للدولة، دورها الكبير في نشر وتعزيز "ثقافة التسامح" عبر علاقة أجهزة الحكومة بالناس، بتقيدها بالتشريعات التي تصدرها وعدم تجبرها وتغولها على الحقوق والحريات، لا ينبغي للدولة أن تخاصم مواطنيها - تعنتاً - في طلب حق أو مصلحة مستحقة، ثم إن الدولة العربية في علاقتها، بأختها الدولة العربية أو الإسلامية، عليها أن تراعي قيم الأخوة والتسامح في العلاقات، حتى لا تنعكس سلباً على العلاقات بين الشعبين.


صحيح أن علاقات الدول تقوم على المصالح، وليس القيم والأخلاق، ولكن قرآننا يوجهنا "وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ"، لذا على الدولة أن تتسامح - سياسياً ودينياً واجتماعياً - بين مكوناتها المجتمعية من دون إقصاء أو تمييز أو تهميش لأقلية أو طائفة بسبب معتقداتها أو دينها أو مذهبها أو قوميتها أو جنسها، ولعلماء ورجال الدين دورهم البارز في ترسيخ التسامح في نفوس الناس، وللمجتمع وكتابه ومثقفيه وإعلامييه، دورهم أيضاً...
لابد أن نعمل جميعاً على غرس شجرة التسامح في التربة المجتمعية ونتعهدها بعوامل النماء والازدهار، بالتربية المتسامحة، بالتعليم المنفتح، بالتثقيف المعزز لحقوق الإنسان وكرامته، حتى تصبح قيمة التسامح، قناعة من قناعات المجتمع والدولة، تجسدها سلوكيات أفراد المجتمع وتعكسها تشريعات وسياسات الدولة، لا جدوى من التغني بقيم التسامح والمحبة ولا جدوى من الخطب والمواعظ الحماسية ولا الأناشيد والشعارات ولا الفخر والتباهي بأن حضارتنا الإسلامية كانت متسامحة مع الأقليات الدينية؛ فكل ذلك لن يجدي ولن يثمر شيئاً إذا كانت البيئة المجتمعية والوقائع على الأرض، والعلاقات بين الناس والدولة، قائمة على التمييز وعدم الإنصاف، لا قيمة للتسامح في مجتمع، يعاني فيه بعض مكوناته، هضماً لحقوقه.


التسامح سلوك اجتماعي مكتسب، يأتي كمحصلة أو نتيجة لثقافة عامة سائدة في المجتمع ولا يولد الإنسان متسامحاً أو كارهاً، ولكن المجتمع عن طريق الأبوين يبدآن بغرس مفهوم التسامح في وجدان الطفل، ليؤكده المعلم في مدرسته بسلوكه، ثم يعززه الشيخ في جامعه ثم يفعله المجتمع بمؤسساته ومنظماته... "التسامح" ضرورة حياتية لمجتمعاتنا، من أجل استعادة توازنها النفسي والفكري والاجتماعي والسياسي وأيضاً من أجل استعادة "تحصينها" و"مناعتها" من أفكار التطرف.
&