نحو استراتيجيات عربية للفعل والردع تتجاوز سياسات الانتظار والخوف

&صلاح‏ سالم

&

&

&

&

&


&

&

يكاد القلق ينهش عقول عرب كثيرين من توقيع اتفاق نهائي بين إيران والغرب بحلول حزيران (يونيو) المقبل حول الملف النووي، باعتبار أنه سيعيد إطلاق المارد الفارسي، المنفتح على العالم بعد طول انغلاق، ويفتح الباب أمام إيران لاقتسام مناطق النفوذ مع الولايات المتحدة ضمن صفقة كبرى تقوم على تبادل القنبلة النووية مع الهيمنة الإقليمية، وكأن أهداف صنع القنبلة تحققت لإيران من دون كلفة إنتاجها، بل مع رفع الحصار والعقوبات الاقتصادية عنها.

وتبلـــغ مخاوف البعض حداً يتمنى معه تعثر الاتفاق النهائي، والعـــودة إلى نقطة الصفر. وعلى رغــم أن هذا التعثر يبقى وارداً لعوامل كثيرة، منها ممانعة القوى المحافظة على الجانبين، الملالي هنا، والجمهوريون هناك، فإن انتظاره لا يعــدو أن يكون تفكيراً مغلوطاً، لعله نتاج لعقل الخوف وإرادة العجز.

وتنبع سلبية هذا التفكير من كونه ليس سياسة، ولا يطرح رؤى بديلة للمستقبل، بل يكرس حالة الانتظار السلبي التي عاشها العالم العربي، خارج أصدقاء إيران وحلفائها، لوقائع الصفقة الإيرانية - الأميركية، المتوقعة منذ عقد تقريباً، يتفرج عليها، ويتابع جولاتها، ويستمع إلى الإشاعات المتناثرة حولها، من دون رغبة في المشاركة أو قدرة على التأثير فيها، حتى دهمته الحوادث لتكشف الحقائق وتثير المخاوف.

لم يكن الانتظار السلبي إذاً سياسة مثلى، وكان بمقدور العرب، الفاعلين على الأقل، التأثير في تلك المباراة الديبلوماسية بين إيران والغرب بهدوء أعصاب، وارتياح بال من يلعب لقاءً استعراضياً إبرازاً لجماليات اللعبة، وليس سعياً إلى إحراز البطولات. فالبرنامج النووي الإيراني لا يمثل خطراً داهماً على العرب ولو كان عسكرياً، لأن احتمالات استخدام النووي الإيراني ضدهم أقل بكثير من احتمالات النووي الإسرائيلي، مهما بلغت خلافاتهم مع إيران، كونها بلداً مسلماً في النهاية، وشريكاً حضارياً في التاريخ، وظهيراً جغرافياً يمكن أن ترتد إليه شرور فعله. كما أن امتلاك إيران هذا السلاح ربما كان البداية المثلى لتعامل جدي مع فكرة إخلاء المنطقة منه، عبر النزع المتبادل له، فمن دون خشية إسرائيل الحقيقية من احتمالات انتشاره في المنطقة، يبقى الحديث عن مبادرات من هذا النوع محضَ طنطنة سياسية وثرثرة ديبلوماسية. بل لنا أن نتصور كيف كانت تلك المفاوضات فرصة لتحسين صورة العرب، فلو قدموا، مثلاً، مبادرة إلى الأمم المتحدة، يربطون فيها بين النووي الإيراني المحتمل والنووي الإسرائيلي المؤكد، مطالبين بتخلي إسرائيل عن سلاحها النووي الفعلي، أو التسامح مع القدرات النووية الإيرانية القائمة، لكانوا حققوا فوائد جمّة على أصعدة عدة:

أولها تحسين العلاقة مع إيران، ومبادلة دورها السلبي في صراعات المنطقة بالدعم العربي لها في مشروعها النووي، ولو حدث ذلك لخفت وتيرة التناقضات الإقليمية، وخرجت إيران من عقدة الحصار التي سيطرت عليها، ودفعتها إلى حصار العرب بحروب وكالة، قامت على تجييش المذاهب والطوائف في المناطق الهشّة من دولهم.

وثانيها إثبات القدرة على التأثير في القضايا التي تخص علاقة الإقليم بالعالم، كونهم الطرف الأساسي والكتلة القاعدية الكبرى في الشرق الأوسط الذي تعد إيران وتركيا وإسرائيل مجردَ هوامش على متنه، ومن ثم كان ضرورياً أن يسمع العالم صوتهم في ملف شائك يخصهم بالأساس. وثالثها إظهار مقدار من الاستقلالية العربية عن الموقف الأميركي الذي تراجع، منذ سقوط بغداد على الأقل، مستوى تثمينه للعلاقة مع حلفائه الكبار في المنطقة، خصوصاً مصر والسعودية، انحيازاً إلى قوى الجوار إما الراديكالية كإيران التي أخذ يشتبك معها نعم، ولكن على أرضية تقديرها، وصولاً إلى لحظة التوافق البادية، أو تركيا التي اعتبر إسلامها السياسي المعتدل نموذجاً ثقافياً سياسياً يتعين فرضه على المنطقة، باعتباره الأقدر على احتواء تيارات العنف المتفجرة فيها. وتحت لافتته، وبتصور أن «الإخوان المسلمين» قادرون على تجسيده، اتخذت الولايات المتحدة جل مواقفها السلبية من مصر، عقب 30 حزيران 2013.

هكذا، يمكن الادعاء أن الصمت والحياد إزاء تلك المباراة السياسية بين الغرب وإيران، أضاعا على العرب فرصة للتأثير الإقليمي، وإثبات الجدارة التاريخية، وتحسين الصورة الذهنية.

&

بديل الاتفاق

ولنتذكر أن البديل لهذا الاتفاق ليس إلا مواجهة عسكرية بين الجانبين، مع احتمال مشاركة إسرائيلية، من المؤكد أن تقض مضاجع الإقليم الحاضن عدداً من الأقليات الشيعية المسيّسة، والتي يمثل بعضها ميليشيات عسكرية تنسج على منوال الحرس الثوري وتأتمر بالقرار الإيراني. فهل يعد هذا البديل أفضلَ مما جرى في لوزان ويفترض أن يكتمل في حزيران المقبل؟ ولكن يبدو أن الذهنية العربية لم تكن تتصور أن المباراة ستنتهي أصلاً، بل تتخيل في المقابل أن المفاوضات أبدية وكذلك حصار إيران، والعقوبات المضروبة حولها، وهو وضع سكوني مريح لها، لا يفرض عليها أيَ فعل سياسي بل مجرد الانتظار، وفقط إلى زمن لا يأتي أبداً.

ومن ثم، فإن قلق العرب لا ينبع من أفضلية هذا البديل قياساً إلى الاتفاق البادي في الأفق، بل من أمل في ألا يُضطروا إلى الاختيار أساساً، مكتفين باستمرار الواقع للتغطية على كسلهم السياسي وعجزهم الاستراتيجي، وتجنيبهم أخطار الاختيار الذي يفترض حركة ومبادرة للتأثير في المعادلات القائمة. وهو أمر لا يرجع إلى ضعف إمكاناتهم قياساً بغيرهم، فإيران ليست دولة عظمى اليوم أو حتى غداً، والعرب ليسوا ضعفاء بل يملكون من موارد القوة الشاملة ما يؤهلهم لأن يكونوا رأس حربة الشرق الأوسط الكبير. فدول الخليج مجتمعة حول السعودية تكاد تعادل القوة الإيرانية. أما مصر فتحوز من موارد القوة ما يفوق إيران، ويعادل تركيا، ما يعني أن ثمة عوامل نفسية فقط تقف حائلاً دون المناعة العربية في الإقليم، وقد آن الأوان لتجاوزها، كما يجري الآن، سواء بالتفكير في بناء قوة عسكرية مشتركة تعمل كذراعٍ عسكرية توفر نوعاً من الردع ومقداراً من الهيبة للنظام العربي كله، أو بالشروع في «عاصفة الحزم» ضد الحوثيين التي تفتح الطريق واسعاً أمام التحالف العربي للمساهمة في ردع التمدد الإيراني وتشكيل المستقبل اليمني عبر حوار فعال يمثل مدخلاً لاستعادة السياسة وإعادة امتلاك المصير.

&

إطلاق يد؟

وينبع تشاؤم هذا التفكير السلبي من افتراضه أن خروج إيران من كهف الحصار الغربي، سيطلق يدها في الإقليم استكمالاً لما هو قائم من اختراق، كأن عقلَ العرب القابع في الخوف يقول: إذا كانت إيران فعلت هذا وذاك وهي محاصرة، لا تملك سلاحاً متقدماً، ولا مالاً وفيراً، فما الذي يمكنها القيام به إذا امتلكت السلاحَ والمال، وانفك عنها الحصار؟ هذا السؤال يتجاهل افتراضاً عكسياً يظل في حاجة إلى الاختبار، وهو أن الخروج من الحصار يدفع إلى الاعتدال لا إلى التشدد، تعويلاً على دوافع عدة.

أولها: أن الدول المحاصرة، مثل الشخص المحاصر، يميل كلاهما إلى التطرف، والسعي إلى تفعيل المكونات الصلدة في هويته، على منوال التدين المتطرف لدى الشخص، والأفكار الشوفينية لدى الدول، فالأمم العريقة، خصوصاً كإيران، غالباً ما تستدعي وعياً شوفينياً مغلقاً إذا حوصرت سياسياً، أو هزمت عسكرياً، لتُبقي مشاعر الثقة بالذات في زمن الأزمة، وحال الصمود والاحتشاد لدى الجماهير التي تحتاج إلى تبريرات لحالها، يتعين على النخب أن تقدمها. وليس بعيداً من هذا الفهم استخدام مصطلح «الشيطان الأكبر» لوصف الولايات المتحدة، باعتبارها مستودعَ الشر المطلق قياساً بالذات الإيرانية المشبعة بروح الخير، في نوع من الاجترار للصراع المانوي التقليدي المستبطن للثقافة الفارسية، خصوصاً بين إله الخير «أهورا مازدا» وإله الشر «أهريمان». أما في مواجهة العالم العربي، الشريك في الإسلام، فقد تم توظيف الفصل المذهبي، وإعطاؤه نكهة ملحمية، تتغذى على المظلومية الشيعية التاريخية.

وثانياً: أن غياب إيران عن أي إطار إقليمي، جعلها أقرب إلى «فاعل شبح» في المجال العربي. فمن ناحية هي قوة فاعلة موجودة في قلب مشكلات الإقليم. لكنها من ناحية أخرى غير مرئية بوضوح، وغير ممكن حسابها لأنها خارج أي نسق للتفاعل الإقليمي بحيث تصعب مراجعتها، وغير محاطة بنسيج تفاعلات محكم بحيث يمكن تحميلها أعباء سياستها غير الرشيدة. ومن أدوات العقاب الأساسية التهديد بدفعها خارج ذلك الإطار الإقليمي الذي تنضوي فيه، أو حرمانها من نسيج العلاقات الودي الذي يحيط بها. ويمكن هنا سرد كثيرٍ من الحجج على أن ذلك الموقف الاستراتيجي الذي تمتعت به إيران كـ «قوة شبح» كان أكثر عناصر ديناميتها في مواجهة العالم العربي، وعلى أن إعادة دمجها في البنيان الدولي، سيقيّدها أكثر مما يطلق يدها في المنطقة، لأنه سيرتب أثماناً يتوجب عليها أن تدفعها حال خروجها على التوافقات الجديدة المحيطة بها، سواء من عوامل نموها اقتصادياً، أو من منسوب الثقة بها سياسياً.

ثالثها: حاجة الأجيال الإيرانية الجديدة للانفتاح على العالم، والتمتع بمعالم نموذج سياسي منفتح وإنساني، وهو الأمر الذي يفسر حال البهجة التي عمت الشارع، ودفعت الشباب للاحتفاء بوزير الخارجية عند عودته من لوزان، ما يفرض على الملالي هناك إعادة ضبط إيقاعاتهم، حفظاً لتوازنهم في سياق واقع جديد أكثر انفتاحاً على العالم، وأقل حماسةً للأيديولوجيا، حتى لا يقع صدام مروع بين الجمهورية وولاية الفقيه.

عاش نظام الجمهورية الإسلامية لما يقارب الأربعة عقود على قاعدة مذهب الإمامية الاثني عشرية، بإلهام نزعة مهدوية، أخذت تستبدل، منذ صدر كتاب الخميني «الحكومة الإسلامية» عام 1971، الشيعية التقليدية التي يمتلئ زمانها بانتظار الإمام الغائب بشيعية جديدة (سياسية) تقول بولاية الفقيه، باعتباره ذلك الرجل القادر على اسبتطان الحقيقتين الدينية - الروحية، والعملية - السياسية. وهكذا تم تشكيل نظام خلاصي، طالما ادعى القداسة الدينية تأميماً لمفهوم السياسة الدنيوية.

&

صراع المرجعية

وإذا كان التاريخ وشى لنا دائماً بأن جل الأفكار اليوتوبية لم تكن فاعلة في التاريخ، وبأن كل محاولات الخلاص خارج قوانينه لم تكن سوى هوامش على دفتره، فإنه، سيصرخ قريباً بهذه الحقيقة في البرية الإيرانية. وعند ذلك سينمو الصراع ويصير أكثر جذرية حول المرجعية الدينية، لتصبح محلاً للنقاش في الآتي من الأيام، كما جرت وقائع الأمور عقب انتخابات 2009 التي أثارت شكوكاً وأسالت دماءً وطرحت أسئلة لم يجب عنها الملالي، بل قُمعت بعنف أملاً بزوالها، ولكنها لن تزول بل الأغلب أن تتجدد بدرجة أكبر من الجذرية وقدرة أعلى على التحدي. فالنظام الإيراني، ككل نظام مغلق، ينمو على العزلة، ويتغذى على مشاعر الخوف، ويتقوى بالحصار، وما إن ينتهي الخوف، ويتفكك الحصار حتى تتوالى الأسئلة التي سرعان ما تتحول إلى مساءلة، وجميعها تقود في النهاية إلى مطالب مشروعة لشعب عريق فعلاً، له الحق في تقرير مستقبله والسيطرة على مصيره، بعدما تأكد أن الخلاص من قبضة التخلف والضعف لا يكون سوى بعمل إنساني داخل التاريخ، وليس بوعود خلاص تتجاوز هذا التاريخ.

وإذا كان الولي الفقيه تخلص من آفة انتظار الإمام الغائب، ليأخذ الزمن بيده، ويصنع التاريخ بنفسه، فالأغلب أن تنزع الأجيال الإيرانية الجديدة إلى الخلاص من آفة انتظار الولي الفقيه نفسه، لتأخذ حاضرها بأيديها وتصنع مستقبلها بعقولها.


&