&

&ياسر عبد العزيز

حصول حزب العدالة والتنمية على أكثر قليلاً من 40% في الانتخابات الأخيرة يعني ببساطة أن الأحزاب المعارضة تمتلك مجتمعة نحو 60% من مقاعد البرلمان، وبالتالي فإنه بات مجبراً على أن يذهب إلى انتخابات مبكرة أو أن يشكل تحالفاً مع أحد هذه الأحزاب ليتمكن من الاستمرار في الحكم من خلال حزبه.


انشغل العالم خلال الأسبوع الماضي بنتائج الانتخابات البرلمانية التركية؛ وهو الأمر الذي يؤكد تعاظم دور سياسة أنقرة، وزيادة تأثيرها في المحيط الإقليمي والدولي.
وببساطة شديدة، فقد ربح حزب العدالة والتنمية الأكثرية في تلك الانتخابات، لكنه خسر أغلبيته المطلقة؛ بمعنى أنه لن يعود قادراً على الهيمنة منفرداً على سياسات البلاد كما حدث في السنوات السابقة، بما يحرمه من إدامة سياساته الإقليمية من جانب، ويبدد أحلامه في تغيير الدستور، ليحول النظام التركي إلى نظام رئاسي، تتسع فيه صلاحيات الرئيس من جانب آخر.
وصل إردوغان إلى حكم تركيا إثر هيمنة حزبه على البرلمان في الانتخابات التي جرت في عام 2002، ومنذ ذلك التاريخ عاش هذا الزعيم رحلة صعود أسطورية، توالت فيها انتصاراته الانتخابية، وتكرست قيادته للبلاد، بموازاة نجاحات اقتصادية وتنموية مذهلة، تحققت على مدى 13 عاماً.
لكن إردوغان الذي عظم الاقتصاد التركي، وضاعف الناتج القومي للبلاد أكثر من مرة، وجدد البنية الأساسية، وأعاد بناء الدور الإقليمي لبلاده، حتى باتت فاعلاً مؤثراً في الملفات الساخنة التي تتفاعل في المنطقة وحولها، تلقى انتقادات واسعة داخل تركيا وخارجها لطريقته في الحكم، ولبعض سياساته التي وصفت بأنها حادة وغير مدروسة ولا تحقق المصلحة الوطنية للبلاد.
خسر إردوغان حليفه الأساسي عالم الدين فتح الله غولن، الذي يمتلك قاعدة شعبية عريضة، ويتغلغل بنفوذه في مفاصل الدولة، كما هاجم خصومه الحزبيين، وراح يتهمهم بموالاة قوى خارجية، ويشكك في نزاهتهم، ويضيق عليهم في عملهم.
وحينما نشبت الاحتجاجات العمالية والشبابية، أظهر إردوغان صلابة شديداً إزاءها، واتخذ حيالها إجراءات وصفت بأنها خشنة، مثل فض الاحتجاجات فضاً عنيفاً، مما أسقط قتلى ومصابين، فضلاً عن اعتقال الناشطين، ومداهمة وسائل إعلام، وإغلاق صحف وقنوات تلفزيونية، ومنع استخدام "تويتر" و"يوتيوب"، والتهديد بإغلاق "فيسبوك".
وقد اتهمت المعارضة التركية إردوغان بفعل ما هو أكثر من ذلك؛ منتقدة قيام حكومته باعتقال أطفال ونجوم مجتمع، بتهم "إهانته" أو معارضته على مواقع التواصل الاجتماعي.
يرى معارضون لإردوغان أنه سعى إلى وضع حليفه وزميله الحزبي رئيس الجمهورية السابق عبدالله غول في الظل، قبل أن يترشح لمنصب رئيس الجمهورية، ويأتي بحليفه أحمد داود أوغلو رئيساً للوزراء، لكنه استمر في الهيمنة على الحزب وقيادته، وراح يمارس صلاحيات أوغلو الدستورية، آملاً الحصول على أغلبية مطلقة جديدة في البرلمان، تمكنه من تغيير الدستور، لكي يتمتع بصلاحيات القيادة بشكل شرعي.
لكن حصول حزب العدالة والتنمية على أكثر قليلاً من 40 في المئة في الانتخابات الأخيرة يعني ببساطة أن الأحزاب المعارضة تمتلك مجتمعة نحو 60 في المئة من مقاعد البرلمان، وبالتالي بات مجبراً على أن يذهب إلى انتخابات مبكرة أو أن يشكل تحالفاً مع أحد هذه الأحزاب ليتمكن من الاستمرار في الحكم من خلال حزبه.
إن فرص إردوغان في استعادة السلطة المطلقة في البلاد باتت ضعيفة، حتى إن استطاع أن يقنع أياً من الأحزاب الرئيسة الثلاثة المعارضة بالتحالف مع حزبه، فإنه سيخفق في كل الأحوال في الحصول على التعديل الدستوري الذي يريده.
كان إردوغان على مدى السنوات الخمس الفائتة أحد أبرز حلفاء تنظيم "الإخوان" الإقليميين، وقد أرجع البعض ذلك لأسباب عديدة؛ منها "أحلامه باستعادة أمجاد الخلافة العثمانية"، ومنها أيضاً رغبته في تعظيم الدور الإقليمي للسياسة التركية، لذلك فقد سعى إلى دعم القوى الإسلامية و"الإخوانية" تحديداً في كل من ليبيا، وتونس، وسورية، واليمن، إضافة إلى مصر.
وبعد إطاحة مرسي، ونجاح مسار "30 يونيو" في مصر، دخل هذا الزعيم في ما يمكن وصفه بأنه "صراع حاد" مع الدولة المصرية، في محاولة للضغط عليها لمصلحة حلفائه "الإخوان".
قدم إردوغان في هذا الصراع شعار "رابعة" لـ"الإخوان"، إضافة إلى الدعم المالي والسياسي والإعلامي واللوجستي، مما أدى إلى تردي علاقات بلاده مع القاهرة.
خليجياً، حافظ إردوغان على علاقات جيدة مع كل من سلطنة عمان والكويت طوال الوقت، لكنه علاقاته بقطر ازدهرت ازدهاراً كبيراً حيث التقت رؤية الجانبين في دعم "الإخوان" ومعاداة مسار "30 يونيو" في مصر.
وقد تضررت علاقات إردوغان كثيراً بالسعودية في عهد الملك عبدالله، خصوصاً بسبب العنصر "الإخواني"، لكن الأواصر الاستراتيجية لتلك العلاقة بقيت صامدة، ويبدو أن الملك سلمان في طريقه لتعزيز تلك العلاقات مرة أخرى.
أما الإمارات، فقد تراجعت علاقاتها بأنقرة بوضوح، بسبب تصادم سياسات الطرفين الإقليمية تصادماً واضحاً، ويبدو أن أبوظبي ستظل ترهن تحسن علاقاتها بتركيا بمدى مواءمة سياسات تلك الأخيرة لتصورها عن الأوضاع الإقليمية.
الآن سيمكن القول بوضوح إن دعم إردوغان لـ"الإخوان" لن يستمر على ما كان عليه، بل سيتراجع تراجعاً ملحوظاً بكل تأكيد، وإذا أخفق في لملمة شتات نفوذه، واستطاعت الأحزاب المعارضة التكتل ضد هيمنته، مع تصاعد الضغوط الشعبية الرافضة لسياساته، وتفاقم الأزمات الاقتصادية التي خلفتها نتائج الانتخابات الأخيرة، فسيمكننا أيضاً أن نتوقع تقلص هذا الدعم بشكل كبير ومؤثر.
مازال إردوغان رئيساً لتركيا، ومازال حزب العدالة والتنمية الحزب الأكثر نفوذاً والمكلف بتشكيل الحكومة، لذلك فإن العنصر الإردوغاني سيظل العنصر الأهم في سياسات أنقرة حيال منطقة الخليج والإقليم، لكنه لم يعد العنصر الوحيد، كما أنه بات أكثر قابلية للمطاوعة، وأكثر انفتاحاً على التغيير.
وباستثناء قطر، التي ترى في إردوغان ما قبل الانتخابات الأخيرة، حليفاً إقليمياً نموذجياً، فإن السعودية والإمارات والكويت ستجد أن الأوضاع التركية الجديدة أكثر ملاءمة لتعاون تركي- خليجي إيجابي، يحقق مصالح متوازنة للطرفين، ولا يفرض رؤية أو هيمنة على الدول العربية، خصوصاً دول التغيير.
سيبقى أن تركيا ما بعد الانتخابات ستكون أقل شغفاً بمعاداة الأسد وأقل قدرة على الانخراط في الأوضاع السورية، وهو أمر ستدرك دول الخليج العربية لاحقاً أنه أفضل مما كان يخطط له إردوغان إزاء هذا البلد الذي يتخذ طريقه إلى التفتت.
&