&مصطفى السعيد

&

&

&

عندما تتعرض دولة لعدوان، فإنها تضطر إلى اتخاذ عدد من التدابير لحماية أرضها وشعبها وجيشها، فتغلق المسام والثغرات التي قد يتسلل


منها العدو وعملاؤه، وتشدد عمليات الرقابة على الإعلام والاتصالات والموانيء الجوية والبحرية، وتوسع نطاق الاشتباه، إلى جانب ما تراه من تدابير تعرقل تنفيذ العدو مخططاته، حتى لو تسببت في تضيق حدود الحريات العامة والخاصة.

&

&

&

هذا ما تتخذه جميع الدول بما فيها الولايات المتحدة، التي تدعي تقديسها الحريات، فعندما تعرضت لهجمات 11 سبتمبر من تنظيم يبعد عنها آلاف الأميال، اتخذت إجراءات رقابية مشددة، لكن الفترة الأكثر رعبا هي المعروفة باسم «المكارثية»، عقب الحرب الكورية، والاشتباه بتغلغل الشيوعية في أمريكا، فجرى شن حملات رقابة وتشكيك وتشويه طالت الكثير من المثقفين والفنانين والساسة، لا تقل قسوة عن حملات التخوين أو التكفير.

&

&

وعادة ما تكون الدولة المتعرضة للعدوان أقل قوة من المعتدي، الذي يرى أن قدراته تكفي لأن يتدخل في شئون الدولة المعتدى عليها، ليفرض عليها شروطه، أو يتدخل مباشرة أو بمساعدة عملاء لاحتلالها، ويضطر الأضعف إلى الانكماش في وضع حيوان القنفذ عندما يحس بالخطر، ليحمي مواطن ضعفه، ويغطيها بالأشواك.

&

&

لكن العدوان الذي تتعرض له مصر عقب ثورة 25 يناير 2011 كان له طبيعة خاصة ومعقدة، فهو ليس عدوانا تقليديا مثل حربى 1967 و1956، بل حرب لها عدة وجوه، ومن أطراف متعددة، دولية وإقليمية ومحلية، وبوسائل من مختلف أجيال الحروب، في وقت تعاني فيه مؤسسات الدولة والقوى السياسية الارتباك وعدم وضوح الرؤية، وانعدام الثقة.

&

&

ومما زاد الأمر سوءا أن الدولة تعرضت لعمليات اختراق واسعة النطاق طوال فترة حكم مبارك، وتغلغل النفوذ الأجنبي داخل النخب المصرية وأجهزة الدولة والإعلام ومراكز الدراسات، وحتى التعليم والجمعيات الخيرية والأحزاب السياسية، من خلال غطاء «التمويل الأجنبي» الذي لم يدع كبيرة أو صغيرة إلا ووضع فيروساته داخلها، حتى الفن والثقافة ومحو الأمية والري والزراعة والصحة.

&

&

لقد اخترق التمويل الأجنبي كل المجالات تحت شعارات براقة بدعم المواهب، والإنتاج المستقل عن هيمنة الدولة، ودعم الفئات المعرضة لانتهاكات، لكن هذا التمويل سرعان ما تحول إلى أداة فعالة في إضعاف الجهاز المناعي للدولة، وحتى يتم تجنب مثل هذا العدوان الذي يستخدم الإرهاب والحرب الإقتصادية والإعلامية، وإثارة الفتن والقلاقل الداخلية، فإن المواجهة قد تجر أجهزة الأمن إلى إجراءات أشد قسوة واتساعا في ضرب كل فرد أو جماعة تحوم حولهم الشكوك في التعاون مع العدو.

&

&

إن التوسع في عمليات التضييق وتشديد العقوبات وتوسيع دائرة الإشتباه، واعتبار أي معارضة خيانة تصب في مصلحة العدو لها آثارها الجانبية الخطيرة.

&

&

وفي ظل الحماس الشعبي لمواجهة العدوان، والاعتقاد بأن كل تضييق على المعارضين أو المشتبه في معارضتهم يخدم العدو، يتسع نطاق الانتهاكات، وتبدأ قطاعات من النخبة والشباب المتحمس للدفاع عن الحريات العامة والخاصة في التذمر، وتضطر الأجهزة الأمنية إلى مواجهة هذا التذمر قبل أن يتحول إلى تمرد، فتبدأ فى اتخاذ تدابير أشد قسوة واتساعا لمنع أي شكل من أشكال المعارضة، وهنا تكون قد اعتمدت أجهزة الدولة على القمع بديلا عن الإقناع، وهي تفعل ذلك من منطلق القناعة بأنها تدفع الثمن الأكبر في مواجهة العدو، وأنها على خط المواجهة في حماية كيان الدولة، وأن المنتقدين وغير الراضين إما جهلة أو عملاء.

&

&

تفقد الإدارة السياسية الحاضنة الشعبية شيئا فشيئا، وقطاعا تلو آخر، ويبدأ التأييد لها في التآكل، فتعتمد على الموثوق فيهم، وعادة ما يلجأ غير الأكفاء والمعينين من باب الثقة إلى المبالغة في المخاطر، حتى تزداد أهمية دورهم، ويتحمسوا لأشد إجراءات القمع، ويحاولون النيل من الكفاءات التي قد تنافسهم أو تقلل من شأنهم، وتصبح لهذه الفئة مصالحها الخاصة في تأجيج المواجهات، وتوسيع نطاق الاتهام بالخيانة.

&

&

في مثل هذه الظروف ينبعي على الدولة أن تقدم خدمات أوسع للفئات الفقيرة، وتحرص على تحسين ظروفها المعيشية حتى تكسب تأييدها، وقد تضطر إلى قمع بعض رجال الأعمال والتجار الذين يستغلون الأزمات، وتوجه ضربات قوية للفاسدين، وتحمل الأغنياء الجزء الأكبر من فاتورة تكاليف التصدي للعدوان، وهو ما يجعل الطبقات الفقيرة تشعر بوجود إدارة عادلة، ويتكرس شعورها بالتفاؤل تجاه المستقبل، أما إذا لم تجد الطبقات الشعبية ما يطمئنها ويوفر لها الإحتياجات الساسية للحياة، فإنها تكون جاهزة للتمرد، وتصبح أشبه ببرميل بارود ضخم قابل للتفجير.

&

&

هنا يكون العدو قد وجد فرصته المناسبة للانقضاض على الدولة، في ظل تفكك وعزلة شعبية تزداد، إلى جانب استخدام المؤسسات الدولية في التشهير بالإجراءات القمعية، وتصبح آمال النخب المعرضة للملاحقة مرهونة بتحرك هذه المؤسسات الدولية لتحمي حياتهم وحريتهم، وتشرع الدولة المعتدية بحكم نفوذها داخل هذه المؤسسات الدولية في تشديد الحصار الخارجي باسم حقوق الإنسان ومواجهة الديكتاتورية وحماية الديمقراطية.

&

&

كيف لا نصل إلى هذه الحالة ونحن نواجه الإرهاب المدعوم دوليا وإقليميا؟

&

&

لا يمكن تحقيق نصر حقيقي وناجز على الإرهاب إلا بالمواجهة الفكرية، التي تتطلب بالضرورة توسيع الحريات وإشراك كل القوى السياسية والإجتماعية الرافضة للعنف في العملية السياسية، وبناء أوسع جبهة شعبية، لتعزيز الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب، إلى جانب الحد من إصدار القوانين المقيدة للحريات، خاصة تلك التي تفوق آثارها السلبية ضرورتها في التصدي للإرهاب، مع خطوات جادة لتحسين أوضاع الفقراء وتحجيم الفساد، وتحميل رجال الأعمال والأغنياء الجزء الأكبر من فاتورة الأعباء الإقتصادية التي تواجهها الدولة.

&

&