طيب تيزيني
جاءت الأحداث السورية لتفتح أبواباً من المعاناة واللامعقول، وذلك على نحو يدحض النظر إلى التاريخ بمثابة حركة تقدمية مفتوحة! فقد ساد سابقاً في أوساط من الباحثين المؤرخين ومن المثقفين التنويريين في أوروبا وأميركا، كما في الشرق، اعتقاد بأن حركة التاريخ إن هي إلا حركة إلى الأمام باطراد، تعبيراً عن الطموح إلى بناء عالم خالٍ من الحروب والجرائم والاضطراب.
وقد ظهر هذا التوجه خصوصاً مع الحروب الكونية، وتحديداً مع الحربين العالميتين الأولى والثانية، عصر تقدم تكنولوجيا التدمير، وإعادة النظر في الخرائط العالمية. ونعيش هذا التوجه في مرحلة الحروب الكبرى، وهي هذه المرحلة المعيشة راهناً، والمجسدة بما يحدث على صعيد «المحور السوري».
وإذا لجأنا الآن إلى بعض المحطات العظمى في تاريخ البشر بهدف تعميق النظر إلى ما نحن بصدده، فإننا نجد أمامنا أولاً العصر الذي عرف تحت مصطلح «العصر الحجري القديم»، واستمر لأزمنة سحيقة، ثم يأتي «العصر الحجري الحديث»، ويطلق عليه مصطلح «عصر البربرية»، وقد استمر عشرات الآلاف من السنوات، كما يعتبر خطأ أن «ما قبل التاريخ» قد انتهى مع انتهاء ذينك العصرين، ومن ثم وكما يعتبر المؤرخون، نكون قد دخلنا «عصر الحضارات»، الذي سيستمر آلاف السنين ويقوم على نمط من «الِملكية الجماعية» ينزاح عن الوجود ربما مرحلياً مع ظهور الملكية الخاصة.
ولن ننساق أكثر بهذا الاتجاه، حيث إننا نبقى في ذلك النطاق، لنتبين اتجاهات كبرى تظهر حثيثاً ثم بقوة، وذلك مع نشوء صراعات جديدة ومركبة ومعقدة في أطر من المشكلات الجديدة، التي راحت ترتبط بالأوضاع الاقتصادية والسياسية والتملكية وغيرها، لنجد أنفسنا في خط من الصراعات يفضي، بمعنى أو بآخر، إلى العصر الحديث.
كان بعض التفصيل في ذلك ضرورياً، لنتبين المآلات القادمة وما قد جعلته حاسماً في الحياة العامة. وفي سبيل ذلك نطمح إلى تبسيط الموقف ببعض الأمثلة، التي مرت على البشرية مع الحروب والصراعات القديمة الجدية، مثل الحرب العالمية الأولى والثانية، والثالثة السورية المعيشة راهناً. ونرى أن ذلك التبسيط في الصيغة العمومية التي جاء فيها، قد يقودنا إلى وضع الأمور التالية في مواقعها المناسبة، ووفق الظروف الزمانية التاريخية التي نمر بها نحن السوريين وآخرين غيرنا في العالم، مع ملاحظة أن تلك الأمور سجلت ببساطتها وسذاجتها، كما بالدلالات الهائلة التي تحملها، وترسلها إلى العالم.
وإليك ما يقدم لوحة تهز أعماق البشر: فتاة أم في حالة مرض عضال، ومعها طفلة في حالة مأساوية بهزالها واصفرارها وضآلة جسمها، ومنزل يعيش فيه ثلاثة أطفال مع أم وأب، أصبحوا كلهم أشلاء ممزقة بفعل قنابل من نوع ما مدمر، وأسواق وشوارع وبيوت دمرت وذهب حطامها مع الريح، بل ثمة بلدات ومناطق تذكر بالقاذفات التي ألقيت عليها، بمعارك في ستالينغراد وبرلين بمراحل التدمير العالمي الأول والثاني، وأحياء بكاملها يحذر ساكنوها بأنهم أمام واحدة من اثنتين: الركوع أو الجوع حتى الموت.
وفي سبيل تنفيذ ذلك، تستجلب عائلات عراقية شيعية، لتأخذ أماكن يسكنها أطفال ونساء ورجال، وعلب تنطوي على مواد إغاثية يحتاجها البؤساء الجياع الباحثون عما يسد الرمق ويدفئ الجسد والروح تذهب مع الريح بدلاً من تسليمها لمستحقيها. ونبش القبور والتمثيل بساكنيها، رغم استلقائهم أمواتاً، والتدمير الممنهج لأحياء وشوارع في مدن حملت أمانة التاريخ، بل امتد الأمر إلى تفريغ مناطق كاملة من سكانها، وتحطيم الآثار التي تحتوي عليها كشواهد على حضارات تاريخية. ولا ننسى ما فعلته مجموعة «الحشد الشعبي» الشيعي بأحد الأطفال، فقد هرسته تحت دواليب دبابة، وهو جزء من إرث هائل، يتحدث عن نفسه، ويضعنا أمام التساؤل التالي: هل إخراج هذا الإرث من التاريخ السوري العربي خطوة متممة للجهود الحثيثة لإعادة بناء الوطن السوري العربي، عبر اللعب بتكوينه التاريخي العريق؟ لكن اللعب إذا كان في حالة ما محتملاً، فإنه في حالة أخرى، هي التي نعيشها، يعادل تفريطاً بوطن قدم للعالم كله ما لا يحصى وما لا يزول. أول ذلك تمثل في اكتشاف الأبجدية، التي قد تكون أعظم ما قدمه تاريخ ذلك الوطن، لأنه وضع اليد الأولى على ما سينشأ من أسئلة لاحقة، وفي مقدمتها السؤال عن الذات السورية العربية.
نعم، هنالك خلل في النظر للتاريخ باعتباره تقدماً مطرداً، لأن هذا التاريخ ينطوي على عناصر استمراره المفتوح، وعلى ما قد يحول دون ذلك لأسباب كثيرة ليس أقلها عبث العابثين من الآخرين، كما من «أهل الدار»، وهذا هو الأخطر بطبيعة الحال.
التعليقات