عبدالله بن بجاد العتيبي
مرّت الهوية الأميركية بمراحل متعددة طوال تاريخها، منذ الآباء المؤسسين والاحتلال البريطاني إلى الواقع اليوم، وتنقلت الثيمة الأصلية لها بين العرق والدين والثقافة والتعدد والانفتاح ونحوها، وقد شرح ذلك بإسهابٍ الباحث المعروف صموئيل هنتنغتون، في كتابه «من نحن، المناظرة الكبرى حول أميركا».
عبر انتخاب دونالد ترامب رئيسًا عن شريحةٍ واسعةٍ من الأميركيين البيض البروتستانت الذين يرون في أنفسهم الممثل الحقيقي للهوية الأميركية، والذين يرون أنهم أصبحوا مهمشين، وباتوا يخشون أن يصبحوا أقليةً في بلادهم، مع ملاحظة أنهم أصبحوا أقليةً بالفعل في ولاياتٍ كبرى مثل كاليفورنيا وتكساس، ومن هنا داعبت مواقفه تجاه الهجرة والمهاجرين الجدد مخاوف هذه الفئة.
سكان أميركا الأصليون هم الهنود الحمر، ولكن سكانها الذين يمثلون أكثريتها في التاريخ الحديث هم المهاجرون الأوروبيون. وللمفارقة، فإن أميركا التي هي في الأساس «أمةٌ من المهاجرين» قد بدأت تضيق ذرعًا بالمهاجرين الجدد الذين يشكل الإسبان والسود والمسلمون نسبةً كبيرةً منهم، بحسب الترتيب. فالمهاجرون الأوائل يرفضون المهاجرين الجدد. والهجرة باتت موضوعًا مقلقًا جدًا في الدول الغربية، وتوافد المهاجرين بأعدادٍ كثيفةٍ يهدد التركيبة الديموغرافية في الدول الأوروبية، وبات موضوع نقاشٍ سياسي وثقافي عميقٍ؛ وهي مخاوف باتت تدعم صعود اليمين بشكل واضح.
كان الرؤساء الأميركيون يمضون في سياساتٍ عامةٍ متقاربةٍ لا تحمل كثيرًا من التباين في الرؤى الأساسية لموقع الولايات المتحدة الأميركية ومكانتها في العالم، أقله منذ الحرب العالمية الثانية والرئيس روزفلت، ولكن الأمر اختلف في العقد والنصف الماضيين، فقد وصل لحكم أميركا جورج بوش الابن ومعه المحافظون الجدد، وقاموا بالتدخل العسكري الواسع خارجيًا، وفرض هيبة أميركا حول العالم، وأسقطوا دولتين بالقوة العسكرية والحرب المباشرة؛ هما أفغانستان والعراق. وجاء كردة فعل قويةٍ ومباينة الرئيس باراك أوباما الذي غرق في الانعزالية والانسحابية من العالم، وتودد لخصوم أميركا وخضع لهم. واليوم، يأتي الرئيس ترامب وهو يعد بنسف إرث سياسة أوباما الخارجية.
يتعرض العالم لآفةٍ كبرى هي آفة الإرهاب الذي يُنسب للإسلام، وهو منه براء، فهو ملأ العالم بشروره وبشاعته وتوحشه. وأحد العوامل التي ساعدت ترامب على الفوز هو الخوف العميق من الإرهاب، خصوصًا بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وتحديدًا بعد سياسات أوباما التي منحت الإرهاب فرصةً للتمدد والتوسع، ومع التأكيد على أن الإرهاب لا دين له، إلا أنه يتمثل في هذه اللحظة من تاريخ البشرية في المتطرفين المسلمين، سنةً وشيعةً.
تظهر تعيينات الرئيس ترامب التي خرجت للعلن حتى الآن أنه يتجه بقوةٍ لمعاودة الحرب على الإرهاب مجددًا بقوةٍ وفاعليةٍ، وهو سيجد في الدول العربية المعتدلة المتمثلة في المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة وحلفائهم حليفًا جاهزًا، بل متقدمًا في محاربة الإرهاب، مع مشروعيةٍ مسلمةٍ يحتاجها كثيرًا في المرحلة المقبلة، وهو ملفٌ كبيرٌ يمكن البناء عليه لاستعادة تحالفاتٍ قديمةٍ، هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى توضح هذه التعيينات أن لديها موقفًا عقلانيًا وسياسيًا صلبًا تجاه الدولة الأكبر في رعاية الإرهاب حول العالم، وهي جمهورية الولي الفقيه في إيران، وتفاصيل رعايتها للتنظيمات الإرهابية السنية والشيعية أشهر من أن تذكر، وقد كان أوباما يتجاهل المعلومات المنشورة، ويمنع نشر بعض المعلومات السرية حتى لا تبطل رؤيته الخاطئة للاتفاق مع طهران.
يتخوف عددٌ من الشعوب والمثقفين من صعود اليمين في الغرب، وأن العنصريين الجدد سيملأون الدنيا بالمؤامرات إن كان قوميًا أو يساريًا، وبالفتن والمحن إن كان إسلامويًا، وربما كانت بعض هذه المخاوف معقولةً ويمكن تفهمها، ولكن ما ينساه الجميع أن الخطابات الثقافية والسياسية الغالبة لدى هذه الشعوب وهؤلاء المثقفين تلعن الغرب ليل نهار، دولاً وشعوبًا، سياسةً وثقافةً، تحت مسميات متعددة، ويتم تبرير ذلك بأن خطاب الضعيف الفاشل يجعله مستحقًا للصراخ والتطرف، وغير ملزمٍ بالعقلانية والمنطق، وهذا تناقض.
هناك صعودٌ منذ عقودٍ باتجاه الراديكالية والهوياتية، وتحديدًا في منطقة الشرق الأوسط، ساعد عليه فشل المشاريع الأخرى، والصراعات الإقليمية التي عززته حتى استفحل حروبًا وميليشياتٍ وتنظيماتٍ إرهابية تفتك بالمنطقة وبدولها وشعوبها. وبعد عهودٍ من اليسارية المستفحلة في الأكاديميات ووسائل الإعلام في الدول الغربية، برزت توجهاتٌ يمينية في أميركا والدول الأوروبية، وقد كتب عن هذا الكاتب المعروف فهد الشقيران في مقالةٍ مميزةٍ، الخميس الماضي، في هذه الصحيفة، تحت عنوان: «العالم بعيونٍ غير يسارية».
اليسار ليس وحشًا، واليمين كذلك، ولكن كلاً منهما سبق له التوحش، فالمشكلة تكمن في التوحش والتطرف، ومن حق اليمين أن يجد طريقه للتعبير عن نفسه، فاليمين السياسي مفيد في الاستقرار، على أن يتم ذلك في إطار من التوازن، فالتاريخ يوجد دائمًا توازنًا معينًا للإبقاء على مساره مستمرًا.
لقد أدت سياسات أوباما لقتل وتهجير الملايين من البشر، ووسعت من قدرات الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية على نشر الإرهاب والعنف حول العالم، وأضرت كثيرًا بالتوازنات الدولية والإقليمية، وما يبدو هو أن سياسات خلفه ترامب ستمحو بعض تلك الأضرار بشكل جذري، ولكن هل يمكن لها أن تحدث أضرارًا أخرى في اتجاهات أخرى؟
سؤالٌ مهمٌ، والجواب أن ذلك ممكنٌ دون شكٍ، ومع أن العالم ينتظر ليتبين أكثر ما السياسات الخارجية للرئيس الجديد، وما التوجهات الكبرى التي ستحكمها، فإن السؤال الأهم يكمن في ما الدور الذي يجب أن تضطلع به الدول العربية المعتدلة لدعم قوتها الصاعدة ومواقفها المدافعة عن الدول العربية وشعوبها؟ وما السياسات التي ستتخذها للحد من أي أضرارٍ محتملةٍ يمكن أن تنشأ عن سياساتٍ خاطئةٍ لبعض الدول الكبرى في العالم؟
الواقع يقول إنه ليس مهمًا من نحب ومن نكره، ولكن الأهم أن نعمل بجدٍ واجتهادٍ لنكون فاعلين حقيقيين في المنطقة واضطراباتها وصراعاتها، وفي العالم وحراكه، وفي التاريخ وتقلباته، وأن نكون مبادرين لا متلقين نكتفي بردود الفعل.
أخيرًا، كتب هنري كيسنجر، في كتابه الأخير «النظام العالمي»، قائلاً: «يجب على أميركا أن تعمل على استقطاب فهمٍ مشتركٍ مع بلدٍ (السعودية) هو الجائزة المحورية الأخيرة المستهدفة من قبل كلٍ من صيغتي الجهاد السنية والشيعية على حدٍ سواء، بلدٍ ستكون جهوده ومساعيه.. أساسيةً وجوهريةً في رعاية أي تطورٍ إقليمي بناء».
التعليقات