عبد الجليل زيد المرهون

ما هي ملامح البيئة الدولية التي نحن بصددها اليوم؟ وما الذي يشير إليه المتغيّر الأميركي؟

هناك طريقتان تتم عبرهما تشكيل ملامح الواقع الدولي، في سياقه الكلي أو العام. ترتبط الأولى بتفاعلات القوى الكبرى (أو قمة النظام الدولي) وتتصل الثانية بتفاعلات القوى الإقليمية.

بداية، يُمكن الإشارة إلى أن مصطلح قمة النظام الدولي، لم يعد واضحاً في محدداته، كما كان الحال إبان الحرب الباردة، حيث كان يشير إلى القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

إذا كانت إدارة الرئيس الأميركي القادم، دونالد ترامب، بصدد إعطاء مواجهة الإرهاب أولوية في سياستها الخارجية، فشعوب هذه المنطقة ترى نفسها منسجمة مع ذلك، لأنها أول ضحايا هذا الإرهاب..

كذلك، فإن مصطلح قوى المرتبة الثانية، لم يعد هو الآخر موضع اجماع على مستوى التحديد، بسبب تغيّر معايير قياس القوة الكلية، أو الوزن الجيوبوليتيك الكلي للدول.

ومن ناحيته أيضاً، فإن مصطلح قوى الأطراف لم يعد صالحاً، وذلك نتيجة تداخل المصالح العالمية، وتشابكها على وقع عصر العولمة، وحيث بات عدد منها على قدر ملحوظ من الحضور في تفاعلات النظام الدولي.

إذاً، نحن بصدد قاموس سياسي فقد صلاحيته، على مستوى عدد من تعريفاته، ولم يعد بالمقدور العودة إليه لمقاربة الواقع الدولي.

بعد ذلك، فإن مصطلح النظام الدولي الجديد، الذي تم التبشير به منذ تسعينيات القرن العشرين، ظل مصطلحاً معلقاً، لا اتفاق على مضمونه.

وهذا المضمون المفاهيمي، الذي لم يحسم على مدى ثلاثة عقود، بحاجة الآن إلى منطلقات تحديد جديدة، تتجاوز فكرة انتفاء الثنائية القطبية، ومبدأ التعددية، إلى ماهية هذه التعددية، ومعاييرها واتجاهاتها.

وبموازاة ذلك، تبرز مسألة توصيف السياسات الدولية، وإلى أين تقود، وأية محددات هيكلية يُمكن أن تتشكل على ضوئها.

هذه قضايا كبرى، يجب أن تتصدى لها معاهد البحث السياسي حول العالم، ارتكازاً إلى سياق تعددي، على مستوى المداخل والمنطلقات.

وكمقاربة عامة، يُمكن القول إننا بصدد نظام عالمي أعيد تحوّله. وفي إعادة التحوّل هذه تأكد عنصر التعددية، ولكن ليس في السياق الذي بُشر به بعيد انتهاء الحرب الباردة، بل في سياق جديد، يعاني قدراً كبيراً من عدم التوازن على مستوى الثقل والدور.

هذه التعددية، انتهت اليوم لأن تغدو تعددية مشوهة، ولا ندية فيها، وتستند فيها قوى على أخرى، وتتموضع حول قوتين واضحتين، كانتا تمثل قطبي الحرب عصر الثنائية، وهما الولايات المتحدة وروسيا وريثة الاتحاد السوفياتي.

من ناحيته، لم ينجح الاتحاد الأوروبي بأن يصبح قوة ثالثة، وذلك نتيجة لمحدوديته العسكرية، واختلال مؤسساته الاتحادية. وبدورها لم تستطع الصين أن تغدو القطب الرابع، استناداً إلى قدراتها الاقتصادية الهائلة، وهي لا زالت تعاني من وهن نفوذها الجيوسياسي العالمي.

دول المرتبة الثانية الأخرى، كالبرازيل، لازالت بعيدة عن التحوّل إلى أقطاب ذات ثقل جيوسياسي في الساحة الدولية.

من ناحيتها، فإن قوى الأطراف، أو القوى الإقليمية، لم تشهد إعادة إنتاج كلي لتحالفاتها، واستتباعاً اتجاه حركتها. وفي الغالب، تغيّرت مواقع هذه القوى ولكن من دون أن يتغيّر جوهر تطلعاتها كدول.

في هذا الوقت، هناك فرضية إعادة تشكيل علاقات/تحالفات قمة النظام الدولي، ارتكازاً إلى متغيّر العلاقات الأميركية الروسية.

هذه فرضية لا يجوز استبعادها على الصعيد التحليلي، متى أصبح هذا المتغيّر قائماً، لا جدال في وجوده.

بالتوازي مع ذلك، فإن خارطة التحالفات الإقليمية، على مستوى مناطق مختلفة حول العالم، سوف تشهد هي الأخرى درجات متفاوتة من التحوّل.

هذه ببساطة إعادة رسم لبيئة النظام الدولي.

إعادة الرسم هذه سوف تمثل - متى تحققت - تحوّلاً تاريخياً، على الدول المختلفة أن تحدد موقعها منه، وما إذا كانت مكاسبها واضحة.

بالطبع، هذه قضية ليست سهلة، وهي تحتاج إلى نمط معقد من الحسابات، وتحديد المعايير، أو إعادة تحديدها.

وبالنسبة لنا، نحن أمم الشرق الأوسط الكبير، علينا التمسك بثوابتنا، ومصالحنا بعيدة المدى، ووزن المتغيّرات في ضوئها. وبالقدر الذي نبدو فيه ايجابيين، بالقدر الذي نغدو رابحين، فالمتغيّر السياسي ليس جبلاً لا يمكن صعوده.

هذه المنطقة الحساسة من العالم، كانت ولا زالت تتطلع لليوم الذي تغدو فيه آمنة ومزدهرة، وكل من يستطيع أن يدفع باتجاه تحقيق هذا الهدف، لا بد من الترحيب بجهوده، ومبادراته.

إن هذا الشرق بحاجة لكافة الجهود الرامية لتحقيق تطلعاته. وعلى دول العالم المختلفة أن تستثمر في السياسة والأمن على النحو الذي يحقق هذه التطلعات. والقوى الكبرى معنية أساس بهذه المقولة. أو لنقل هي معنية بذلك قبل كافة الأقطار الأخرى.

إن أحداً في هذا الشرق لا يجد نفسه في مواجهة فرضية التقاء أميركي – روسي. بل ليس من مصلحته أن يتصدى لخيار سيادي لدولة عظمى.

ولا بد من التأكيد على أن التباين في الأولويات لا يمثل سبباً للخلاف، بل هو حالة طبيعية في سياسات الأمم، ومبرر إضافي للتعاون بينها.

وإذا كانت إدارة الرئيس الأميركي القادم، دونالد ترامب، بصدد إعطاء مواجهة الإرهاب أولوية في سياستها الخارجية، فشعوب هذه المنطقة ترى نفسها منسجمة مع ذلك، لأنها أول ضحايا هذا الإرهاب.